الأول وقد اتفق أني كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ العرض والمال فعارضني وقالا يجوز الاعتماد على الجد والجهد بل يجب الاعتماد على قضاء الله وقدره فقلت هذه كلمة حق سمعتها ولكنك ما عرفت معناها وذلك لأنه لا شبهة أن الكل من الله تعالى إلا أنه سبحانه دبر الأشياء على قسمين منها ما جعل حدوثه وحصوله معلقاً بأسباب معلومة ومنها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب
أما القسم الأول فهو حوادث هذا العالم الأسفل
وأما القسم الثاني فهو حوادث هذا العالم الأعلى وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعاً لله في حكمته مخالفاً في تدبيره فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناءً على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرَى واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها أن هذه البشارة متى تحصل فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والرحة والريحان وثانيها أن هذه البشارة فبماذا تحصل فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات أما زوال المكروهات فقوله تعالى أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت ٣٠ ) والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله أَن لا تَخَافُواْ يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا ولما أزال الله عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ ( فصلت ٣٠ ) وقال أيضاً في آية أخرى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( الحديد ١٢ ) وقال أيضاً وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( الزخرف ٧١ ) والثالث أن المبشر من هو فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة إما عند الموت فقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( النحل ٣٢ ) وإما بعد دخول الجنة فقوله الْمَلَائِكَة َ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد ٢٣ ٢٤ ) ويحتمل أن يكون هو الله سبحانه كما قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب ٤٤ )
واعلم أن قوله لَهُمُ الْبُشْرَى فيه أنواع من التأكيدات أحدها أنه يفيد الحصر فقوله لَهُمُ الْبُشْرَى أي لهم لا لغيرهم وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير الله تعالى وأقبل بالكلية على الله تعالى وثانيها أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء ولم يبق منها نصيب لغيرهم وثالثها أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخباراً فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول


الصفحة التالية
Icon