الصفة الثالثة من صفات القرآن كونه مَّثَانِيَ ( الزمر ٢٣ ) وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل وأحوال السموات والأرض والجنة والنار والظلمة والضوء واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد والوعيد والرجاء والخوف والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه
الصفة الرابعة من صفات القرآن قوله تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الزمر ٢٣ ) وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف قال المفسرون والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله وأقول إن المحققين من العارفين قالوا السائرون في مبدأ إجلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة فهنا يقشعر جلده لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فرداً أحداً وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله وأيضاً إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضاً بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد وأما إذا ترك هذا الاعتبار وقال ههنا موجود والموجود إما واجب وإما ممكن فإن كان واجباً فهو دائماً منزه عن الأول والآخر وإن كان ممكناً فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزلياً أبدياً فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة بل ذاك أول تلك المراتب وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين
المسألة الثانية روى الواحدي في ( البسيط ) عن قتادة أنه قال القرآن دل على أن أولياء الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان وأقول ههنا بحث آخر وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين وهي أنا نرى كثيراً من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة وأنا أقول إني خلقت محروماً عن هذا المعنى فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر


الصفحة التالية
Icon