جلدي وقف على شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت ألبتة في نفسي منها أثراً وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا وبيانه من وجوه الأول أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق وإثباته في حق الله تعالى كفر وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام ٥٩ ) إلى آخر الآية والثاني وهو أني سمعت بعض المشايخ قال كما أن الكلام له أثر فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة جبريل بتبليغ الرسول المعصوم والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور والثالث أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق قال تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الشورى ٥٢ ٥٣ ) وأما الشعر فمداره على الباطل قال تعالى وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ( الشعراء ٢٢٤ ٢٢٦ ) فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته والله أعلم
المسألة الثالثة في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ونذكرها في معرض السؤال والجواب
السؤال الأول كيف تركيب لفظ القشعريرة الجواب قال صاحب ( الكشاف ) تركيبه من حروف التقشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد يقال اقشعر جلده من الخوف وقف شعره وذلك مثل في شدة الخوف
السؤال الثاني كيف قال تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وما الوجه في تعديه بحرف إلى والجواب التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس بالإدراك
السؤال الثالث لم قال إلى ذكر الله ولم يقل إلى ذكر رحمة الله والجواب أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئاً غيره وأما من أحب الله لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله بل قال إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام ١٢٥ ) وفي قوله أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد ٢٨ ) وأيضاً قال لأمة موسى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة ٤٠ ) وقال أيضاً لأمة محمد ( ﷺ ) فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة ١٥٢ )
السؤال الرابع لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معاً والجواب لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح والله أعلم
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ


الصفحة التالية
Icon