وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى فقوله عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى ينبىء عن الاقتضاء فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن نتقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال لِى َ لاَ أَعْبُدُ بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه وبيان ذلك هو أن خالف عمرو يجب على زيد عبادته لأنه من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً
واعلم أن المشهور في قوله فَطَرَنِى خلقني اختراعاً وابتداعاً والغريب فيه أن يقال فطرني أي جعلني على الفطرة كما قال الله تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم ٣٠ ) وعلى هذا فقوله لِى َ لاَ أَعْبُدُ أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فإن قيل فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ ( الأنعام ١٤ ) فنقول قد قيل بأن فاطر السموات من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم أو نقول المعنى فيهما واحد كأنه قال فطر المكلف على فطرته وفطر السموات على فطرتها والأول من التفسير أظهر
وقوله تعالى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف ٥٦ ) وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى وفيه أيضاً معنى لطيف وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مراراً فالأول عابد يعبد الله لكونه إلهاً مالكاً سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء والثاني عابد يعبد الله للنعمة الواصلة إليه والثالث عابد يعبد الله خوفاً مثال الأول من يخدم الجواد ومثال الثاني من يخدم الغاشم فجعل القائل نفسه من القسم الأعلى وقال لِى َ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى أي هو مالكي أعبده لأنظر إلى ما سيعطيني ولأنظر إلى أن لا يعذبني وجعلهم دون ذلك فقال وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي خوفكم منه ورجاؤكم فيه فكيف لا تعبدونه ولهذا لم يقل وإليه أرجع كما قال فطرني لأنه صار عابداً من القسم الأول فرجوعه إلى الله لا يكن إلا للإكرام وليس سبب عبادته ذلك بل غيره
أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَة ً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ
ثم قال تعالى أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً ليتم التوحيد فإن التوحيد بين التعطيل والإشراك فقال ومالي لا أعبد إشارة إلى وجود الإله وقال مِن دُونِهِ ءالِهَة ً إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله وفي الآية أيضاً لطائف الأولى ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر وذلك أن من أخبر من شيء فقال مثلاً لا أتخذ يصح من السامع أن يقول له لم لا تتخذ فيسأله عن السبب فإذا قال أأتخذ يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار كأنه يقول استشرتك فدلني والمتشار يتفكر فكأنه يقول تفكر في الأمر تفهم من غير إخبار مني الثانية قوله من دونه وهي لطيفة عجيبة وبيانها هو أنه لما بين أنه يعبد الله بقوله الَّذِى فَطَرَنِى ( يس ٢٢ ) بين أن من دونه لا تجوز عبادته فإن عبد غير الله وجب عبادة كل شيء


الصفحة التالية
Icon