منتهى الكلام في هذا البحث أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة ولا للعلم ولا للقدرة فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطاً للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة والله أعلم
المسألة الثالثة ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سبباً وفائدة وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم لأن الذوق دالخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام فكان هذا داخلاً فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة االفروج قال وهذا من باب الكنايات كما قال وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( البقرة ٢٣٥ ) وأراد النكاح وقال أَوْ جَاء مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ ( النساء ٤٣ ) والمراد قضاء الحاجة وعن النبي ( ﷺ ) أنه قال ( أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه ) وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في الإتيان بالزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ
ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء
ثم قال تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار عن ابن مسعود قال كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر عللى ثقفيان وقرشي فقال أحدهم أترون الله يسمع ما تقولون فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع فذكرت ذلك لرسول الله ( ﷺ ) فنزل وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ
ثم قال تعالى وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ وهذا نص صريح في أن من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه فإنه يكون من الهالكين الخاسرين قال أهل التحقيق الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل قال ( ﷺ ) حكاية عن الله عزّ وجلّ ( أنا عند ظن عبدي بي ) وقال ( ﷺ ) ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال وقال قتادة الظن نوعان ظن منج وظن مرد فالمنح قوله إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ( الحاقة ٢٠ ) وقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ


الصفحة التالية
Icon