غيره وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره فلهذا السبب كان التسبيح مقدماً على التحميد ولهذا قال يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ
وأما الجهة الثانية وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات فالإشارة إليها بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها فهذه ملامح من المباحث العالية الإلاهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار وقد قال تعالى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَة ِ فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم قلنا الجواب عنه من وجوه
الأول أن قوله لِمَن فِى الاْرْضِ لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان قوله لِمَن فِى الاْرْضِ صريحاً في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حام المؤمن فقال وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر ٧ ) الثالث يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ إلى أن قال إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( فاطر ٤١ ) الرابع يجوز أن يقال إنهم ستغفرون لكل من في الأرض أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول اللّهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر وهذا في الحقيقة استغفار
واعلم أن قوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه الأول أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني أن الملائكة قالوا في أول الأمر أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة ٣٠ ) ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجوداً في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث


الصفحة التالية
Icon