المساواة في حقيقة الذات فيكون المعنى أن شيئاً من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية فول كان الله تعالى جسماً لكان كونه جسماً ذاتاً لا صفة فإذا كان ساشر الأجسام مساوية له في الجسمية أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتاً والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسماً
واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه ( بالتوحيد ) وهو في الحقيقة كتاب الشرك واعترض عليها وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات لأن كان رجلاً مضطرب الكلام قليل الفهم ناقص العقل فقال ( نحن نثبت لله وجهاً ونقول إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء ونفى عنها الجلال والإكرام غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً لكان قد شبّه وحوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب ثم قال ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه )
وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب ( أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبهاً فكذا ههنا ) ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء فالأول أنه تعالى قال في هذه الآية وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال في حق الإنسان فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان ٢ ) الثاني قال وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ( التوبة ١٠٥ ) وقال في حق المخلوقين أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِى جَوّ السَّمَآء ( النحل ٧٩ ) الثالث قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ( هود ٣٧ ) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ ( الطور ٤٨ ) وقال في حق المخلوقين الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ( المائدة ٨٣ ) الرابع قال لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص ٧٥ ) وقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة ٦٤ ) وقال في حق المخلوقين ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( آل عمران ١٨٢ ) ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج ١٠ ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح ١٠ ) الخامس قال تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه ٥ ) وقال في الذين يركبون الدواب لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ( الزخرف ١٣ ) وقال في سفينة نوح وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود ٤٤ ) السادس سمى نفسه عزيزاً فقال الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ( الحشر ٢٣ ) ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ( يوسف ٧٨ ) قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ( يوسف ٨٨ ) السابع سمى نفسه بالملك وسمى بعض عبيده أيضاً بالملك فقال وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ ( يوسف ٥٠ ) وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة ١٢٩ ) وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ ( غافر ٣٥ ) ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس وقال ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب


الصفحة التالية
Icon