إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحاً وجدلاً وضحكاً بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج وقالوا أآلهتنا أهون الوجه الثالث في التأويل وهو أن النبي ( ﷺ ) لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلهاً لأنفسهم قال كفار مكة إن محمداً يريد أن يجعل لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إلهاً لأنفسهم ثم عند هذا قالوا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا يعني أآلهتنا خير أم محمد وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا إن محمداً يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل فإن عيسى ليس إلا عبداً أنعمنا عليه فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون ومنهم من فرق أما القراءة بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه وأما بالكسر فمعناه يضجون
المسألة الثالثة قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاماً بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاماً بهمزة ومدة
ثم قال تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ مبالغون في الخصومة وذلك لأن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يتناول الملائكة وعيسى وبيانه من وجوه الأول أن كلمة ما لا تتناول العقلاء ألبتة والثاني أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع أن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه والخاص مقدم على العام
المسألة الرابعة القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( غافر ٤ ) أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل
ثم قال تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ


الصفحة التالية
Icon