مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم بل كان يقول لهم آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه فإن الكافر أول ما يؤمن يؤمن بالاعتراف بكون النبي ( ﷺ ) صادقاً وبين من قيل له لا تستهزىء برسول الله ولا تكذبه ولا تؤذه وبين من قيل له لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزناً بين يديه ولا تجهر بكلامك الصادق بين يديه بون عظيم
واعلم أن بقدر تقديمك للنبي عليه الصلاة والسلام على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي عليه الصلاة والسلام إياك في العقبى فإنه لن يدخل أحد الجنة ما لم يدخل الله أمته المتقين الجنة فإن قلنا بالثاني فتحقيقه هو أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى التي هي حق التقاة وهي التي لا تخشى مع خشية الله أحداً فتراه آمناً من كل مخيف لا يخاف في الدنيا بخساً ولا يخاف في الآخرة نحساً والناظر العاقل إذا علم أن بالخوف من السلطان يأمن جور الغلمان وبتجنب الأراذل ينجو من بأس السلطان فيجعل خوف السلطان جنة فكذلك العالم لو أمعن النظر لعلم أن بخشية الله النجاة في الدارين وبالخوف من غيره الهلاك فيهما فيجعل خشية الله جنته التي يحس بها نفسه في الدنيا والآخرة
ثم قال تعالى لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
وقد ذكرنا أن المغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية
إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
بياناً لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه وأما قول القائل للملك يا فلان من سوء الأدب فإن قلت كل أحد يقول يا الله مع أن الله أكبر نقول النداء على قسمين أحدهما لتنبيه المنادى وثانيهما لإظهار حاجة المنادي مثال الأول قول القائل لرفيقه أو غلامه يا فلان ومثال الثاني قول القائل في الندبة يا أمير المؤمنين أو يا زيداه ولقائل أن يقول إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال فكيف يناديه وهو ميت فنقول قولنا يا الله لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى وإنما كان في النداء الأمران جميعاً لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ولا ينادي في الأكثر إلا معرضاً أو غافلاً فحصل في النداء الأمران ونداؤهم كان للتنبيه وهو سوء أدب وأما قول أحدنا للكبير يا سيدي ويا مولاي فهو جار مجرى الوصف والإخبار الثاني النداء من وراء الحجرات فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيبه من مكانه ويكلمه ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان الثالث قوله الْحُجُراتِ إشارة إلى قول النبي ( ﷺ ) في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان وهو أعلى مرتبة من غيره وليس لمن دونه كلام لكن النداء في المعنى كالتنبيه وقد يحصل بصوت يضرب شيء على شي وفي الحيوانات العجم ما يظهر


الصفحة التالية
Icon