الأولى فقالوا علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الوحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على الفاسق فائدة وهو من باب التمسك بالمفهوم وأما في الثانية فلوجهين أحدهما أمر بالتبين فلو قبل قوله لما كان الحاكم مأموراً بالتبين فلم يكن قول الفاسق مقبولاً ثم إن الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيف من باب الخبر والثاني هو أنه تعالى قال ءانٍ تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ والجهل فوق الخطأ لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلاً والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزاً
المسألة الخامسة ءانٍ ذكرنا فيها وجهين أحدهما مذهب الكوفيين وهو أن المراد لئلا تصيبوا وثانيها مذهب البصريين وهو أن المراد كراهة أن تصيبوا ويحتمل أن يقال المراد فتبينوا واتقوا وقوله تعالى ءانٍ بَعْدَهَا قَوْماً يبين ما ذكرنا أن يقول الفاسق تظهر الفتن بين أقوام ولا كذلك بالألفاظ المؤذية في الوجه والغيبة الصادرة من المؤمنين لأن المؤمن يمنعه دينه من الإفحاش والمبالغة في الإيحاش وقوله بِجَهَالَة ٍ في تقدير حال أي أن تصيبوهم جاهلين وفيه لطيفة وهي أن الإصابة تستعمل في السيئة والحسنة كما في قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النساء ٧٩ ) لكن الأكثر أنها تستعمل فيما يسوء لكن الظن السوء يذكر معه كما في قوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ ( النساء ٧٨ ) ثم حقق ذلك بقوله فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ بياناً لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادماً وقوله فَتُصْبِحُواْ معناه تصيروا قال النحاة أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه أحدها بمعنى دخول الرجل في الصباح كما يقول القائل أصبحنا نقضي عليه وثانيها بمعنى كان الأمر وقت الصباح كذا وكذا كما يقول أصبح اليوم مريضنا خيراً مما كان غير أنه تغير ضحوة النهار ويريد كونه في الصبح على حاله كأنه يقول كان المريض وقت الصبح خيراً وتغير ضحوة النهار وثالثها بمعنى صار يقول القائل أصبح زيد غنياً ويريد به صار من غير إرادة وقت دون وقت والمراد ههنا هو المعنى الثالث وكذلك أمسى وأضحى ولكن لهذا تحقيق وهو أن نقول لا بد في اختلاف الألفاظ من اختلاف المعاني واختلاف الفوائد فنقول الصيرورة قد تكون من ابتداء أمر وتدوم وقد تكون في آخر بمعنى آل الأمر إليه وقد تكون متوسطة
مثال الأول قول القائل صار الطفل فاهماً أي أخذ فيه وهو في الزيادة
مثال الثاني قول القائل صار الحق بيناً واجباً أي انتهى حده وأخذ حقه
مثال الثالث قول القائل صار زيد عالماً وقوياً إذا لم يرد أخذه فيه ولا بلوغه نهايته بل كونه متلبساً به متصفاً به إذا علمت هذا فأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء آخذاً في وصف ومبتدئاً في أمر وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط لا يقال أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد نقول إذا تقاربت المعاني جاز الاستعمال وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل وكثير من الألفاظ أصله مضى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما لا يشاركه إذا علم هذا فنقول قوله تعالى فَتُصْبِحُواْ أي فتصيروا آخذين في الندم متلبسين به ثم تستديمونه وكذلك في قوله تعالى فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً أي أخذتم في الأخوة وأنتم فيها زائدون ومستمرون وفي الجملة اختار في القرآن هذه اللفظة لأن الأمر المقرون به هذه اللفظة إما في الثواب أو في العقاب وكلاهما


الصفحة التالية
Icon