الإنسان الذي يحفظ كتاباً ويفهمه ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفاً بحرف ولا يخطر بباله في حالة باباً باباً أو فصلاً فصلاً ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة أو مسألتين أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءاً جزءاً وشيئاً شيئاً والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ أي محفوظ من التغيير والتبديل ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئاً منها والثاني هو الأصح لوجهين أحدهما أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( الأنعام ١٠٤ ) وقال تعالى وَاللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ
بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ
وقوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ
رد عليهم فإن قيل ما المضروب عنه نقول فيه وجهان أحدهما تقديره لم يكذب المنذر بل كذبوا هم وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ( ق ٢ ) كان في معنى قولهم إن المنذر كاذب فقال تعالى لم يكذب المنذر بل هم كذبوا فإن قيل ما الحق نقول يحتمل وجوهاً الأول البرهان القائم على صدق رسول الله ( ﷺ ) الثاني الفرقان المنزل وهو قريب من الأول لأنه برهان الثالث النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى بِالْحَقّ وأية حاجة إليها يعني أن التكذيب متعد بنفسه فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة كما في قوله تعالى فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم ٥ ٦ ) نقول فيه بحث وتحقيق وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب لكن النسبة تارة توجد في القائل وأخرى في القول تقول كذبني فلان وكنت صادقاً وتقول كذب فلان قول فلان ويقال كذبه أي جعله كاذباً وتقول قلت لفلان زيد يجيء غداً فتأخر عمداً حتى كذبني وكذب قولي والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( الشعراء ١٤١ ) وقال تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( القمر ٢٣ ) وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى فَكَذَّبُوهُ ( الأعراف ٦٤ ) وقال وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ ( فاطر ٤ ) إلى غير ذلك وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال الله تعالى كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلَّهَا ( القمر ٤٢ ) وقال بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ وقال تعالى وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَاءهُ ( الزمر ٣٢ ) والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر لأنه هو الذي يصدر من الفاعل فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب غير أن له محلاً يقع فيه فيسمى مضروباً ثم إذا كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال ضربت عمراً وشربت خمراً للعلم بأن الضرب لا بد له من محل يقوم به والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه وإذا قلت مررت يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه لأن من قال مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون


الصفحة التالية
Icon