منافاة ثم إن اليهود في هذا الكلام جمعوا بين المسألتين فأخذوا بمذهب الفلاسفة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي القدم حيث أثبتوا قبل خلق الأجسام أياماً معدودة وأزمنة محدودة وأخذوا بمذهب المشبهة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي الاستواء على العرش فأخطوا ( وضلوا ) وأضلوا في الزمان والمكان جميعاً
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ
ثم قال تعالى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ قال من تقدم ذكرهم من المفسرين إن معناه اصبر على ما يقولون من حديث التعب بالاستلقاء وعلى ما قلناه معناه اصبر على ما يقولون إن هذا لشيء عجيب وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وما ذكرناه أقرب لأنه مذكور وذكر اليهود وكلامهم لم يجر
وقوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون الله أمر النبي ( ﷺ ) بالصلاة فيكون كقوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود ١١٤ )
وقوله تعالى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ إشارة إلى طرفي النهار
وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ
وقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى زلفاً من الليل ووجه هذا أن النبي ( ﷺ ) له شغلان أحدهما عبادة الله وثانيهما هداية الخلق فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الحق ثانيها سبح بحمد ربك أي نزهه عما يقولون ولا تسأم من امتناعهم بل ذكرهم بعظمة الله تعالى ونزهه عن الشرك والعجز عن الممكن الذي هو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب فإنهما وقت اجتماعهم وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ أي أوائل الليل فإنه أيضاً وقت اجتماع العرب ووجه هذا أنه لا ينبغي أن تسأم من تكذيبهم فإن الرسل من قبلك أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا وأوذوا وعلى هذا فلقوله تعالى وَأَدْبَارَ السُّجُودِ فائدة جليلة وهي الإشارة إلى ما ذكرنا أن شغل الرسول أمر أن العبادة والهداية فقوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ أي عقب ما سجدت وعبدت نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ثالثها أن يكون المراد قل سبحان الله وذلك لأن ألفاظاً معدودة جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم فقولنا كبر يطلق ويراد به قول القائل الله أكبر وسلم يراد به قوله السلام عليكم وحمد يقال لمن قال الحمد لله ويقال هلل لمن قال لا إلاه إلا الله وسبح لمن قال سبحان الله ووجه هذا أن هذه أمور تتكرر من الإنسان في الكلام والحاجة تدعو إلى الإخبار عنها فلو قال القائل فلان قال لا إلاه إلا الله أو قال الله أكبر طول الكلام فمست الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة لذلك لعدم تكرر ما في الأول وأما مناسبة هذا الوجه للكلام الذي هو فيه فهي أن تكذيبهم الرسول وتعجبهم من قوله أو استهزاءهم كان يوجب في العادة أن يشتغل النبي ( ﷺ ) بلعنهم وسبهم والدعاء عليهم فقال فاصبر على ما يقولون واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له ولا تكن كصاحب الحوت أو كنوح عليه السلام حيث قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً


الصفحة التالية
Icon