وقوله ههنا فَرَاغَ فإن الروغان يدل على السرعة والروغ الذي بمعنى النظر الخفي أو الرواح المخفي أيضاً كذلك ثم الإخفاء فإن المضيف إذا أحضر شيئاً ينبغي أن يخفيه عن الضيف كي لا يمنعه من الإحضار بنفسه حيث راغ هو ولم يقل هاتوا وغيبة المضيف لحظة من الضيف مستحسن ليستريح ويأتي بدفع ما يحتاج إليه ويمنعه الحياء منه ثم اختيار الأجود بقوله سَمِينٍ ثم تقديم الطعام إليهم لا نقلهم إلى الطعام بقوله فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ لأن من قدم الطعام إلى قوم يكون كل واحد مستقراً في مقره لا يختلف عليه المكان فإن نقلهم إلى مكان الطعام ربما يحصل هناك اختلاف جلوس فيقرب الأدنى ويضيق على الأعلى ثم العرض لا الأمر حيث قال أَلا تَأْكُلُونَ ولم يقل كلوا ثم كون المضيف مسروراً بأكلهم غير مسرور بتركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاماً كثيراً ويكون نظره ونظر أهل بيته في الطعام متى يمسك الضيف يده عنه يدل عليه قوله تعالى
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة ً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ
ثم أدب الضيف أنه إذا أكل حفظ حق المؤاكلة يدل عليه أنه خافهم حيث لم يأكلوا ثم وجوب إظهار العدر عند الإمساك يدل عليه قوله لاَ تَخَفْ ثم تحسين العبارة في العذر وذلك لأن من يكون محتمياً وأحضر لديه الطعام فهناك أمران أحدهما أن الطعام لا يصلح له لكونه مضراً به الثاني كونه ضعيف القوة عن هضم ذلك الطعام فينبغي أن لا يقول الضيف هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل الحسن أن يأتي بالعبارة الأخرى ويقول لي مانع من أكل الطعام وفي بيتي لا آكل أيضاً شيئاً يدل عليه قوله وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ولم يقولوا لا يصلح لنا الطعام والشراب ثم أدب آخر في البشارة أن لا يخبر الإنسان بما يسره دفعة فإنه يورث مرضاً يدل عليه أنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم عليه السلام ثم قالوا نبشرك ثم ذكروا أشرف النوعين وهو الذكر ولم يقتنعوا به حتى وصفوه بأحسن الأوصاف فإن الابن يكون دون البنت إذا كانت البنت كاملة الخلقة حسنة الخلق والابن بالضد ثم إنهم تركوا سائر الأوصاف من الحسن والجمال والقوة والسلامة واختاروا العلم إشارة إلى أن العلم رأس الأوصاف ورئيس النعوت وقد ذكرنا فائدة تقديم البشارة على الإخبار عن إهلاكهم قوم لوط ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ويأتي ببدلهم خيراً منهم
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
ثم قال تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَوْمٍ عَقِيمٍ
أي أقبلت على أهلها وذلك لأنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة وقوله تعالى فِى صَرَّة ٍ أي صيحة كما جرت عادة النساء حيث يسمعن شيئاً من أحوالهن يصحن صيحة معتادة


الصفحة التالية
Icon