أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
ومن هنا لا خلاف أن أَمْ ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام إما بالهمزة فكأنه يقول أخلقوا من غير شيء أو هل ويحتمل أن يقال هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره أما خلقوا أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه تعلق الآية بما قبلها نقول لما كذبوا النبي ( ﷺ ) ونسبوه إلى الكهانة والجنون والشعر وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صدقه إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم كأنه يقول كيف يكذبونه وفي أنفسهم دليل صدقه لأن قوله في ثلاثة أشياء في التوحيد والحشر والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم به صدقه وبيانه هو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما بينا أن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقد بينا وجهه مراراً فلا نعيده
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه ويدل على ما ذكرنا أن الله تعالى ختم الاستفهامات بقوله أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الطور ٤٣ )
المسألة الثانية إذا كان الأمر على ما ذكرت فلم حذف قوله أما خلقوا نقول لظهور انتفاء ذلك ظهوراً لا يبقى معه للخلاف وجه فإن قيل فلم لم يصدر بقوله أما خلقوا ويقول أم خلقوا من غير شيء نقول ليعلم أن قبل هذا أمراً منفياً ظاهراً وهذا المذكور قريب منه في ظهور البطلان فإن قيل قوله أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْء أيضاً ظاهر البطلان لأنهم علموا أنهم مخلوقون من تراب وماء ونطفة نقول الأول أظهر في البطلان لأن كونهم غير مخلوقين أمر يكون مدعيه منكراً للضرورة فمنكره منكر لأمر ضروري
المسألة الثالثة ما المراد من قوله تعالى مِنْ غَيْرِ شَى ْء نقول فيه وجوه المنقول منها أنهم خلقوا من غير خالق وقيل إنهم خلقوا لا لشيء عبثاً وقيل إنهم خلقوا من غير أب وأم ويحتمل أن يقال أم خلقوا من غير شيء أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء ودليله قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات ٢٠ ) ويحتمل أن يقال الاستفهام الثاني ليس بمعنى النفي بل هو بمعنى الإثبات قال الله تعالى ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ ( الواقعة ٥٩ ) و ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ ( الواقعة ٦٤ ) ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ( الواقعة ٧٢ ) كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال الله تعالى أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْء أي الصادق هو هذا الثاني حينئذ وهذا كما في قوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان ٨ ) فإن قيل كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب نقول والتراب خلق من غير شيء فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه وأسندت النظر إلى ابتداء أمره وجدته خلق من غير شيء أو نقول المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر وهو الماء المهين


الصفحة التالية
Icon