المسألة الرابعة ما الوجه في ذكر الأمور الثلاثة التي في الآية نقول هي أمور مرتبة كل واحد منها يمنع القول بالوحدانية والحشر فاستفهم بها وقال أما خلقوا أصلاً ولذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد وهو الخلق وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول أم خلقوا من غير شيء أي أم يقولون بأنهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة كما قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون ١١٥ ) وعلى قولنا إن المراد خلقوا لا من تراب ولا من ماء فله وجه ظاهر وهو أن الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعياً يخفي كونه مخلوقاً على بعض الأغبياء ولهذا قال بعضهم السماء رفع اتفاقاً ووجد من غير خالق وأما الإنسان الذي يكون أولاً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً لا يتمكن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغير أحواله فقال تعالى أَمْ خَلَقُواْ بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها تراباً ولا ماء ولا نطفة ليس كذلك بل هم كانوا شيئاً من تلك الأشياء خلقوا منه خلقاً فما خلقوا من غير شيء حتى ينكروا الوحدانية ولهذا قال تعالى يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ ( الزمر ٦ ) ولهذا أكثر الله من قوله خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ ( الإنسان ٢ ) وقوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع لأن قوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق فيكون كأنه قال أخلقتم لا من ماء وعلى قول من قال المراد منه أم خلقوا من غير شيء أي من غير خالق ففيه ترتيب حسن أيضاً وذلك لأن نفي الصانع إما أن يكون بنفي كون العالم مخلوقاً فلا يكون ممكناً وإما أن يكون ممكناً لكن الممكن لا يكون محتاجاً فيقع الممكن من غير مؤثر وكلاهما محال وأما قوله تعالى أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ فمعناه أهم الخالقون للخلق فيعجز الخالق بكثرة العمل فإن دأب الإنسان أنه يعيا بالخلق فما قولهم أما خلقوا فلا يثبت لهم إلاه ألبتة أم خلقوا وخفي عليهم وجه الخلق أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز ومثل قوله تعالى أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق ١٥ ) هذا بالنسبة إلى الحشر وأما بالنسبة إلى التوحيد فهو رد عليهم حيث قالوا الأمور مختلفة واختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات وقالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص ٥ ) فقال تعالى أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ حيث لا يقدر الخباز على الخياطة والخياط على البناء وكل واحد يشغله شأن عن شأن
أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ
فيه وجوه أحدها ما اختاره الزمخشري وهو أنهم لا يوقنون بأنهم خلقوا وهو حينئذ في معنى قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان ٢٥ ) أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم وثانيها المراد بل لا يوقنون بأن الله واحد وتقديره ليس الأمر كذلك أي ما خلقوا وإنما لا يوقنون بوحدة الله وثالثها لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول يقال فلان ليس بمؤمن وفلان ليس بكافر لبيان مذهبه وإن لم ينو مفعولاً وكذلك قول القائل فلان يؤذي ويؤدي لبيان ما فيه لا مع القصد إلى ذكر مفعول وحينئذ يكون تقديره أنهم ما خلقوا السماوات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك


الصفحة التالية
Icon