وأما المطلب الثاني وهو إثبات أن إله العالم عادل رحيم فيدل عليه قوله تعالى إِلاَّ بِالْحَقّ لأن قوله إِلاَّ بِالْحَقّ معناه إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان وأن الإله يجب أن يكون فضله زائداً وأن يكون إحسانه راجحاً وأن يكون وصول المنافع منه إلى المحتاجين أكثر من وصول المضار إليهم قال الجبائي هذا يدل على أن كل ما بين السماوات والأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده وإلا لزم أن يكون خالقاً لكل باطل وذلك ينافي قوله مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان ٣٩ ) أجاب أصحابنا وقالوا خلق الباطل غير والخلق بالباطل غير فنحن نقول إنه هو الذي خلق الباطل إلا أنه خلق ذلك الباطل بالحق لأن ذلك تصرف من الله تعالى في ملك نفسه وتصرف المالك في ملك نفسه يكون بالحق لا بالباطل قالوا والذي يقرر ما ذكرناه أن قوله تعالى مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا يدل على كونه تعالى خالقاً لكل أعمال العباد لأن أعمال العباد من جملة ما بين السماوات والأرض فوجب كونها مخلوقة لله تعالى ووقوع التعارض في الآية الواحدة محال فلم يبق إلا أن يكون المراد ما ذكرناه فإن قالوا أفعال العباد أعراض والأعراض لا توصف بأنها حاصلة بين السماوات والأرض فنقول فعلى هذا التقدير سقط ما ذكرتموه من الاستدلال والله أعلم
وأما المطلب الثالث فهو دلالة الآية على صحة القول بالبعث والقيامة وتقريره أنه لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وذلك يمنع من القول بأنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينها لابالحق
وأما قوله تعالى وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فالمراد أنه ما خلق هذه الأشياء إلا بالحق وإلا لأجل مسمى وهذا يدل على أن إلاه العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلداً سرمداً بل إنما خلقه ليكون داراً للعمل ثم إنه سبحانه يفنيه ثم يعيده فيقع الجزاء في الدار الآخرة فعلى هذا الأجل المسمى هو الوقت الذي عينه الله تعالى لإفناء الدنيا
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ والمراد أن مع نصب الله تعالى هذه الدلائل ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب ومع مواظبة الرسل على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار بقي هؤلاء الكفار معرضين عن هذه الدلائل غير ملتفتين إليها وهذا يدل على وجوب النظر والاستدلال وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا
واعلم أنه تعالى لما قرر هذا الأصل الدال على إثبات الإله وعلى إثبات كونه عادلاً رحيماً وعلى إثبات البعث والقيامة بنى عليه التفاريع
فالفرع الأول الرد على عبدة الأصنام فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهي الأصنام أَرُونِى َ أي أخبروني مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ والمراد أن هذه الأصنام هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم فإن لم يصح ذلك فهل يجوز أن يقال إنها أعانت إلاه العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا