العالم إليها وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو الله سبحانه وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو الله سبحانه والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم وذلك لا يليق إلا بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام فلما كان الخالق الحق والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى وجب أن لا يجوز الإتيان بالعبادة والعبودية إلا له ولأجله بقي أن يقال إنا لا نعبدها لأنها تستحق هذه العبادة بل إنما نعبدها لأجل أن الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها فعند هذا ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال فقال ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة فنقول هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلاهية المنزلة على سائر الأنبياء وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلاهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد ( ﷺ ) فهو معلوم البطلان وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلاهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه فهو أيضاً باطل لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلاهية على المنع من عبادة الأصنام وهذا هو المراد من قوله تعالى ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب فهذا أيضاً باطل لأن العلم الضروري حاصل بأن أحداً من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام وهذا هو المراد من قوله أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ نوعان من البحث
النوع الأول البحث اللغوي قال أبو عبيدة والفراء والزجاج أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ أي بقية وقال المبرد أَثَارَة ٍ ما يؤثر من علم أي بقية وقال المبرد أَثَارَة ٍ تؤثر مِنْ عِلْمٍ كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا قال الواحدي وكلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال الأول البقية واشتقاقها من أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار الثاني من الأثر الذي هو الرواية والثالث هو الأثر بمعنى العلامة قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء أَثَارَة ٍ أي من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم وقرىء أَثَارَة ٍ بالحركات الثلاث مع سكون الثاء فالإثرة بالكسر بمعنى الأثر وأما الإثر فالمرأة من مصدر أثر الحديث إذا رواه وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر كالخطبة اسم لما يخطب به وهاهنا قول آخر في تفسير قوله تعالى أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور وعن النبي ( ﷺ ) أنه قال ( كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه ) وعلى هذا الوجه فمعنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم والله تعالى أعلم