يفضي الأمر إلى قيام الفتنة بين فرق المسلمين وفي قوله سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ وجوه أشهرها وأظهرها أنهم بنو حنيفة حيث تابعوا مسيلمة وغزاهم أبو بكر وثانيها هم فارس والروم غزاهم عمر ثالثها هوازن وثقيف غزاهم النبي ( ﷺ ) وأقوى الوجوه هو أن الدعاء كان من النبي ( ﷺ ) وإن كان الأظهر غيره أما الدليل على قوة هذا الوجه هو أن أهل السنة اتفقوا على أن أمر العرب في زمان النبي ( ﷺ ) ظهر ولم يبق إلا كافر مجاهر أو مؤمن تقي طاهر وامتنع النبي ( ﷺ ) من الصلاة على موتى المنافقين وترك المؤمنون مخالطتهم حتى إن عبادة بن كعب مع كونه بين المؤمنين لم يكلمه المؤمنون مدة وما ذكره الله علامة لظهور حال من كان منافقاً فإن كان ظهر حالهم بغير هذا فلا معنى لجعل هذا علامة وإن ظهر بهذا الظهور كان في زمان النبي ( ﷺ ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو امتنع من قبولهم لاتباعه لامتنع أبو بكر وعمر لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف ١٥٨ ) وقوله فَاتَّبِعُونِى ( مريم ٤٣ ) فإن قيل هذا ضعيف لوجهين أحدهما أن النبي ( ﷺ ) قال لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح ١٥ ) وقال لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة ٨٣ ) فكيف كانوا يتبعونه مع النفي الثاني قوله تعالى أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ولم يبق بعد ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام حرب قوم أولي بأسٍ شديد فإن الرعب استولى على قلوب الناس ولم يبق الكفار بعده شدة وبأس واتفاق الجمهور يدل على القوة والظهور نقول أما الجواب عن الأول فمن وجهين أحدهما أن يكون ذلك مقيداً تقديره لن تخرجوا معي أبداً وأنتم على ما أنتم عليه ويجب هذا التقييد لأنا أجمعنا على أن منهم من أسلم وحسن إسلامه بل الأكثر ذلك وما كان يجوز للنبي ( ﷺ ) أن يقول لهم لستم مسلمين لقوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء ٩٤ ) ومع القول بإسلامهم ما كان يجوز أن يمنعهم ما كان من الجهاد في سبيل الله مع وجوبه عليهم وكان ذلك مقيداً وقد تبيّن حسن حالهم فإن النبي ( ﷺ ) دعاهم إلى جهاد فأطاعه قوم وامتنع آخرون وظهر أمرهم وعلم من استمر على الكفر ممن استقر قلبه على الإيمان الثاني المراد من قوله لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح ١٥ ) في هذا القتال فحسب وقوله لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ ( التوبة ٨٣ ) كان في غير هذا وهم المنافقون الذين تخلفوا في غزوة تبوك وأما اتفاق الجمهور فنقول لا مخالفة بيننا وبينهم لأنا نقول النبي ( ﷺ ) دعاهم أولاً وأبو بكر رضي الله عنه أيضاً دعاهم بعد معرفته جواز ذلك من فعل النبي ( ﷺ ) إنما نحن نثبت أن النبي ( ﷺ ) دعاهم فإن قالوا أبو بكر رضي الله عنه دعاهم لم يكن بين القولين تناف وإن قالوا لم يدعهم النبي ( ﷺ ) فالنفي والجزم به في غاية البعد لجواز أن يكون ذلك قد وقع وكيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام قال من كلام الله إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى ( آل عمران ٣١ ) وقال وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( الزخرف ٦١ ) ومنهم من أحب الله واختار اتباع النبي محمد ( ﷺ ) لأن بقاء جمعهم على النفاق والكفر بعد ما اتسعت دائرة الإسلام واجتمعت العرب على الإيمان بعيد ويوم قوله ( ﷺ ) لَّن تَتَّبِعُونَا كان أكثر العرب على الكفر والنفاق لأنه كان قبل فتح مكة وقبل أخذ حصون كثيرة
وأما قوله لم يبق للنبي ( ﷺ ) حرب مع أولي بأس شديد قلنا لا نسلم ذلك لأن النبي ( ﷺ ) عام الحديبية دعاهم إلى الحرب لأنه خرج محرماً ومعه الهدى ليعلم قريش أنه لا يطلب القتال وامتنعوا فقال ستدعون إلى الحرب ولا شك أن من يكون خصمه مسلحاً محارباً أكثر بأساً ممن يكون على خلاف ذلك فكان قد علم من حال مكة أنهم لا يوقرون حاجاً ولا معتمراً فقوله أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني أولي سلاح من آلة الحديد فيه بأس شديد ومن قال بأن الداعي أبو بكر وعمر تمسك بالآية على خلافتهما ودلالتها ظاهرة وحينئذ


الصفحة التالية
Icon