إحداها أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي ( ﷺ ) وصوته ولقائل أن يقول فما منعت من المساواة فقال تعالى ولا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا
والثانية أن هذا أفاد أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده لأن العبد داخل تحت قوله كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي ( ﷺ ) كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض لا يقال المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبداً وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام لأنا نقول ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( الأحزاب ٦ ) والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ويجب البذل للنبي ( ﷺ ) ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه في التهلكة لإنجاء سيده ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره لأن عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد
الفائدة الثانية أن قوله تعالى لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ لما كان من جنس لا تَجْهَرُواْ لم يستأنف النداء ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كما في قول لقمان يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ ( لقمان ١٣ ) وقوله لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواة َ ( لقمان ١٧ ) لكون الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح وقوله لَطِيفٌ خَبِيرٌ يابُنَى َّ أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح
واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ أي لا تكثروا الكلام فقوله وَلاَ تَجْهَرُواْ يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عن النبي ( ﷺ ) بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله لا تَجْهَرُواْ أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ فيه وجهان مشهوران أحدهما لئلا تحبط والثاني كراهة أن تحبط وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء ١٧٦ ) وأمثاله ويحتمل ههنا وجهاً آخر وهو أن يقال معناه واتقوا الله واجتنبوا أن تحبط أعمالكم والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى وَاتَّقَوْاْ ( الحجرات ١ ) وأما المعنى فنقول قوله أَن تَحْبَطَ إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصوتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غاية الخوف فإذا ارتكبه مراراً يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن وهذا كان للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر


الصفحة التالية
Icon