في المرة الأولى فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد ولا يدري متى كان ذلك وعند أي خبر حصل هذا اليقين فقوله وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم يحترم النبي ( ﷺ ) ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي ( ﷺ ) حينئذ حابط محبط والله أعلم
واعلم أن الله تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي ( ﷺ ) وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة وأن يكون أرأف بهم من الوالد كما قال وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( الحجر ٨٨ ) وقال تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف ٢٨ ) وقال وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم ٤٨ ) إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه الله
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
وفيه الحث على ما أرشدهم إليه من وجهين أحدهما ظاهر لكل أحد وذلك في قوله تعالى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وبيانه هو أن من يقدم نفسه ويرفع صوته يريد إكرام نفسه واحترام شخصه فقال تعالى ترك هذا الاحترام يحصل به حقيقة الاحترام وبالإعراض عن هذا الإكرام يكمل الإكرام لأن به تتبين تقواكم و إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات ١٣ ) ومن القبيح أن يدخل الإنسان حماماً فيتخير لنفسه فيه منصباً ويفوت بسببه منصبه عند السلطان ويعظم نفسه في الخلاء والمستراح وبسببه يهون في الجمع العظيم وقوله تعالى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى فيه وجوه أحدها امتحنها ليعلم منه التقوى فإن من يعظم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسول مرسل يكون تعظيمه للمرسل أعظم وخوفه منه أقوى وهذا كما في قوله تعالى وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ( الحج ٣٢ ) أي تعظيم أوامر الله من تقوى الله فكذلك تعظيم رسول الله من تقواه الثاني امتحن أي علم وعرف لأن الامتحان تعرف الشيء فيجوز استعماله في معناه وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كما يقول القائل أنت لكذا أي صالح أو كائن الثالث امتحن أي أخلص يقال للذهب ممتحن أي مخلص في النار وهذه الوجوه كلها مذكورة ويحتمل أن يقال معناه امتحنها للتقوى اللام للتعليل وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان السبب المتقدم كما يقول القائل جئتك لإكرامك لي أمس أي صار ذلك الإكرام السابق سبب المجيء وثانيها أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً كما يقول القائل جئتك لأداء الواجب فإن قلنا بالأول فتحقيقه هو أن الله علم ما في قلوبهم من تقواه وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ولولا أن قلوبهم كانت


الصفحة التالية
Icon