فنقول قوله في سورة تبارك خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ لِيَبْلُوَكُمْ ( الملك ٢ ) معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه موجباً لما عملتم شيئاً على هذا التفسير المشهور والظاهر أن المراد من قوله وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ حقيقته وهي أنا ما سبقنا وهو يحتمل شيئين أحدهما أن يكون معناه أنه هو الأول لم يكن قبله شيء وثانيهما في خلق الناس وتقدير الموت فيهم ما سبق وهو على طريقة منع آخر وفيه فائدتان أما إذا قلنا وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ معناه ما سبقنا شيء فهو إشارة إلى أنكم من أي وجه تسلكون طريق النظر تنتهون إلى الله وتقفون عنده ولا تجاوزونه فإنكم إن كنتم تقولون قبل النطفة أب وقبل الأب نطفة فالعقل يحكم بانتهاء النطف والآباء إلى خالق غير مخلوق وأنا ذلك فإني لست بمسبوق وليس هناك خالق ولا سابق غيري وهذا يكون على طريقة التدرج والنزول من مقام إلى مقام والعاقل الذي هداه الله تعالى الهداية القوية يعرف أولاً والذي دونه يعرف بعد ذلك برتبة والمعاند لا بد من أن يعرف إن عاد إلى عقله بعد المراتب ويقول لا بد للكل من إله وهو ليس بمسبوق فيما فعله فمعناه أنه فعل ما فعل ولم يكن لمفعوله مثال وأما إن قلنا إنه ليس بمسبوق وأي حاجة في إعادته له بمثال هو أهون فيكون كقوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم ٢٧ ) ويؤيده قوله تعالى عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَالاً تَعْلَمُونَ فإن قيل هذا لا يصح لأن مثل هذا ورد في سؤال سائل والمراد ما ذكرنا كأنه قال وإنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وما نحن بمسبوقين أي لسنا بعاجزين مغلوبين فهذا دليلنا وذلك لأن قوله تعالى إِنَّا لَقَادِرُونَ أفاد فائدة انتفاء العجز عنه فلا بد من أن يكون لقوله تعالى وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فائدة ظاهرة ثم قال تعالى عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ في الوجه المشهور قوله تعالى عَلَى أَن نُّبَدّلَ يتعلق بقوله وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي على التبديل ومعناه وما نحن عاجزين عن التبديل
والتحقيق في هذا الوجه أن من سبقه الشيء كأنه غلبه فعجز عنه وكلمة على في هذا الوجه مأخوذة من استعمال لفظ المسابقة فإنه يكون على شيء فإن من سبق غيره على أمر فهو الغالب وعلى الوجه الآخر يتعلق بقوله تعالى نَحْنُ قَدَّرْنَا وتقديره نحن قدرنا بينكم على وجه التبديل لا على وجه قطع النسل من أول الأمر كما يقول القائل خرج فلان على أن يرجع عاجلاً أي على هذا الوجه خرج وتعلق كلمة على هذا الوجه أظهر فإن قيل على ما ذهب إليه المفسرون لا إشكال في تبديل أمثالكم أي أشكالكم وأوصافكم ويكون الأمثال جمع مثل ويكون معناه وما نحن بعاجزين على أن نمسخكم ونجعلكم في صورة قردة وخنازير فيكون كقوله تعالى وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ( يس ٦٧ ) وعلى ما قلت في تفسير المسبوقين وجعلت المتعلق لقوله عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ هو قوله نَحْنُ قَدَّرْنَا فيكون قوله نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ معناه على أن نبدل أمثالهم لا على عملهم نقول هذا إيراد وارد على المفسرين بأسرهم إذا فسروا الأمثال بجمع المثل وهو الظاهر كما في قوله تعالى ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( محمد ٣٨ ) وقوله وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ( الإنسان ٢٨ ) فإن قوله إِذَا دليل الوقوع وتغير أوصافهم بالمسخ ليس أمراً يقع والجواب أن يقال الأمثال إما أن يكون جمع مثل وإما جمع مثل فإن كان جمع مثل فنقول معناه قدرنا بينكم الموت على هذا الوجه وهو أن نغير أوصافكم فتكونوا أطفالاً ثم شباناً ثم كهولاً ثم شيوخاً ثم يدرككم الأجل وما قدرنا بينكم الموت على أن نهلككم دفعة واحدة إلا إذا جاء وقت ذلك فتهلكون بنفخة واحدة وإن قلنا هو جمع مثل فنقول معنى نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ نجعل أمثالكم بدلاً وبدله بمعنى جعله بدلاً ولم يحسن أن يقال


الصفحة التالية
Icon