وموته بين بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس قدرته واختياره ثم لما ذكر دليلاً من دلائل الأنفس ذكر من دلائل الآفاق أيضاً قدرته واختياره فقال أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( الواقعة ٦٣ ) أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء ( الواقعة ٦٨ ) إلى غير ذلك وذكر قدرته على زرعه وجعله حطاماً وخلقه الماء فراتاً عذباً وجعله أجاجاً إشارة إلى أن القادر على الضدين مختار ولم يكن ذكر من الدلائل السماوية شيئاً فذكر الدليل السماوي في معرض القسم وقال مواقع النجوم فإنها أيضاً دليل الاختيار لأن كون كل واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل فاعل مختار فقال بِمَواقِعِ النُّجُومِ ليس إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت ٥٣ ) وهذا كقوله تعالى وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات ٢٠ ٢١ ) وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( الذاريات ٢٢ ) حيث ذكر الأنواع الثلاثة كذلك هنا ثم قال تعالى وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ والضمير عائد إلى القسم الذي يتضمنه قوله تعالى فَلاَ أُقْسِمُ فإنه يتضمن ذكر المصدر ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل فيقال ضربته قوياً وفيه مسائل نحوية ومعنوية أما النحوية
فالمسألة الأولى هو أن يقال جواب لَّوْ تَعْلَمُونَ ماذا وربما يقول بعض من لا يعلم إن جوابه ما تقدم وهو فاسد في جميع المواضع لأن جواب الشرط لا يتقدم وذلك لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها فلا يقال زيداً إن قام ولا غيره من الحروف والسر فيه أن عمل الحروف مشبه بعمل المعاني ويميز بين الفاعل والمفعول وغيرهما فإذا كان العامل معنى لا موضع له في الحس فيعلم تقدمه وتأخر مدرك بالحس جاز أن يقال قائماً ضربت زيد أو ضرباً شديداً ضربته وأما الحروف فلها تقدم وتأخر مدرك بالحس فلم يمكن بعد علمنا بتأخرها فرض وجودها متقدمة بخلاف المعاني إذا ثبت هذا فنقول عمل حرف الشرط في المعنى إخراج كل واحدة من الجملتين عن كونها جملة مستقلة فإذا قلت من وأن لا يمكن إخراج الجملة الأولى عن كونها جملة بعد وقوعها جمل ليعلم أن حرفها أضعف من عمل المعنى لتوقفه على عمله مع أن المعنى أمكن فرضه متقدماً ومتأخراً وعمل الأفعال عمل معنوي وعمل الحروف عمل مشبه بالمعنى إذا ثبت هذا فنقول في قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى ( يوسف ٢٤ ) قال بعض الوعاظ متعلق بلولا فلا يكون الهم وقع منه وهو باطل لما ذكرنا وهنا أدخل في البطلان لأن المتقدم لا يصلح جزاء للمتأخر فإن من قال لو تعلمون إن زيداً لقائم لم يأت بالعربية إذا تبين هذا فالقول يحتمل وجهين أحدهما أن يقال الجواب محذوف بالكلية لم يقصد بذلك جواب وإنما يراد نفي ما دخلت عليه لو وكأنه قال وإنه لقسم لا تعلمون وتحقيقه أن لو تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره فلا بد من انتفاء الأول فإدخال لو على تعلمون أفادنا أن علمهم منتف سواء علمنا الجواب أو لم نعلم وهو كقولهم في الفعل المتعدي فلان يعطى ويمنع حيث لا يقصد به مفعول وإنما يراد إثبات القدرة وعلى هذا إن قيل فما فائدة العدول إلى غير الحقيقة وترك قوله إنه لقسم ولا تعلمون فنقول فائدته تأكيد النفي لأن من قال لو تعلمون كان ذلك دعوى منه فإذا طولب وقيل لم قلت إنا لا نعلم يقول لو تعلمون لفعلتم كذا فإذا قال في ابتداء الأمر لا تعلمون كان مريداً للنفي فكأنه قال أقول إنكم لا تعلمون قولاً من غير تعلق بدليل وسبب وثانيهما أن يكون له جواب تقديره لو تعلمون لعظمتموه لكنكم ما عظمتموه فعلم أنكم لا تعلمون إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم ولا تعظيم فلا تعلمون


الصفحة التالية
Icon