المسألة الأولى الضمير في قوله تعالى أَنَّهُ عائد إلى ماذا فنقول فيه وجهان أحدهما إلى معلوم وهو الكلام الذي أنزل على محمد ( ﷺ ) وكان معروفاً عند الكل وكان الكفار يقولون إنه شعر وإنه سحر فقال تعالى رداً عليهم إِنَّهُ لَقُرْءانٌ عائد إلى مذكور وهو جميع ما سبق في سورة الواقعة من التوحيد والحشر والدلائل المذكورة عليهما والقسم الذي قال فيه وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ( الواقعة ٧٦ ) وذلك لأنهم قالوا هذا كله كلام محمد ومخترع من عنده فقال إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
المسألة الثانية القرآن مصدر أو اسم غير مصدر فنقول فيه وجهان أحدهما مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ومثله في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد ٣١ ) وهذا كما يقال في الجسم العظيم أنظر إلى قدرة الله تعالى أي مقدوره وهو كما في قوله تعالى هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى ( لقمان ١١ ) ثانيهما اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن وعلى هذا سنبين فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزكاة يعطى شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو يعطى شيئاً دونه ويعطى الجبران أيضاً حيث قال الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى فيقال له هو كالقرآن بمعنى المقروء ويجوز أن يقال لما أخذ جابر أو مجبور أو يقال هو اسم لما يجبر به كالقربان
المسألة الثالثة إذا كان هذا الكلام للرد على المشركين فهم ما كانوا ينكرون كونه مقروءاً فما الفائدة في قوله إِنَّهُ لَقُرْءانٌ نقول فيه وجهان أحدهما أنه إخبار عن الكل وهو قوله قُرْءانَ كَرِيمٌ فهم كانوا ينكرون كونه قرآناً كريماً وهم ما كانوا يقرون به وثانيهما وهو أحسن من الأول أنهم قالوا هو مخترع من عنده وكان النبي ( ﷺ ) يقول إنه مسموع سمعته وتلوته عليكم فما كان القرآن عندهم مقروءاً وما كانوا يقولون إن النبي ( ﷺ ) يقرأ القرآن وفرق بين القراءة والإنشاء فلما قال إِنَّهُ لَقُرْءانٌ أثبت كونه مقروءاً على النبي ( ﷺ ) ليقرأ ويتلى فقال تعالى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ سماه قرآناً لكثرة ما قرىء ويقرأ إلى الأبد بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة
المسألة الرابعة قوله كَرِيمٌ فيه لطيفة وهي أن الكلام إذا قرىء كثيراً يهون في الأعين والآذان ولهذا ترى من قال شيئاً في مجلس الملوك لا يذكره ثانياً ولو قيل فيه يقال لقائله لم تكرر هذا ثم إنه تعالى لما قال إِنَّهُ لَقُرْءانٌ أي مقروء قرىء ويقرأ قال كَرِيمٌ أي لا يهون بكثرة التلاوة ويبقى أبد الدهر كالكلام الغض والحديث الطري ومن هنا يقع أن وصف القرآن بالحديث مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً فهو قديم يسمعه السامعون كأنه كلام الساعة وما قرع سمع الجماعة لأن الملائكة الذين علموه قبل النبي بألوف من السنين إذا سمعوه من أحدنا يتلذذون به التذاذ السامع بكلام جديد لم يذكر له من قبل والكريم اسم جامع لصفات المدح قيل الكريم هو الذي كان طاهر الأصل ظاهر الفضل حتى إن من أصله غير زكي لا يقال له كريم مطلقاً بل يقال له كريم في نفسه ومن يكون زكي الأصل غير زكي النفس لا يقال له كريم إلا مع تقييد فيقال هو كريم الأصل لكنه خسيس في نفسه ثم إن السخي المجرد هو الذي يكثر عطاؤه للناس أو يسهل عطاؤه ويسمى كريماً وإن لم يكن له فضل آخر لا على الحقيقة ولكن ذلك لسبب وهو أن الناس يحبون من يعطيهم ويفرحون بمن يعطى أكثر مما يفرحون بغيره فإذا رأوا زاهداً أو عالماً لا يسمونه كريماً ويؤيد هذا أنهم إذا رأوا واحداً لا يطلب منهم شيئاً يسمونه كريم النفس لمجرد تركه الاستعطاء لما أن الأخذ منهم صعب عليهم وهذا كله في العادة الرديئة وأما في الأصل فيقال الكريم هو


الصفحة التالية
Icon