والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف وروى ابن مسعود أنه عليه السلام قال ( يا ابن مسعود أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبس العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَة ً إلى آخر الآية )
المسألة الخامسة لم يعن الله تعالى بابتدعوها طريقة الذم بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها ولذلك قال تعالى بعده مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
المسألة السادسة رهبانية منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره ابتدعوا رهبانية ابتدعوها وقال أبو علي الفارسي الرهبانية لا يستقيم حملها على وَمَا جَعَلْنَا لأن ما يبتدعونه هم لا يجوز أن يكون مجعولاً لله تعالى وأقول هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين ومن أين يليق بأبي على أن يخوض في أمثال هذه الأشياء
ثم قال تعالى مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أي لم نفرضها نحن عليهم
أما قوله إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوانِ اللَّهِ ففيه قولان أحدهما أنه استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله الثاني أنه استثناء متصل والمعنى أنا ما تعبدناهم بها إلا على وجه ابتغاء مرضاة الله تعالى والمراد أنها ليست واجبة فإن المقصود من فعل الواجب دفع العقاب وتحصيل رضا الله أما المندوب فليس المقصود من فعله دفع العقاب بل المقصود منه ليس إلا تحصيل مرضاة الله تعالى
أما قوله تعالى فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ففيه أقوال أحدها أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها بل ضموا إليها التثليث والاتحاد وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ وثانيها أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لكن لا لهذا الوجه بل لوجه آخر وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة وثالثها أنا لما كتباها عليهم تركوها فيكون ذلك ذماً لهم من حيث إنهم تركوا الواجب


الصفحة التالية
Icon