واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل فلما حكى عنهم العمل وهو قوله يُوفُونَ حكى عنهم النية وهو قوله وَيَخَافُونَ يَوْماً وتحقيقه قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله وكل ما كان فعلاً لله فهو يكون حكمة وصواباً وما كان كذلك لا يكون شراً فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر الجواب أنها إنما سميت شراً لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شروراً
السؤال الثاني ما معنى المستطير الجواب فيه وجهان أحدهما الذي يكون فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ وهو من قولهم استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر فإن قيل كيف يمكن أن يقال شر ذلك اليوم مستطير منتشر مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء ١٠٣ ) قلنا الجواب من وجهين الأول أن هول القيامة شديد ألا ترى أن السموات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل وتتناثر الكواكب وتتكور الشمس والقمر وتفرغ الملائكة وتبدل الأرض غير الأرض وتنسف الجبال وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج ٢ ) وقال يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل ١٧ ) إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع والجواب الثاني أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيراً في العصاة والفجار وأما المؤمنون فهم آمنون كما قال لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء ١٠٣ ) لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ( الزخرف ٦٨ ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( فاطر ٤٤ ) إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز
القول الثاني في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع
السؤال الثالث لم قال كان شره مستطيراً ولم يقل وسيكون شره مستطيراً الجواب اللفظ وإن كان للماضي إلا أنه بمعنى المستقبل وهو كقوله وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ ( الأحزاب ١٥ ) ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيراً في علم الله وفي حكمته كأنه تعالى يعتذر ويقول إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد وهما يوجبان الوفاء به لاستحالة الكذب في كلامي فكأنه تعالى يقول كان ذلك في الحكمة لازماً فلهذا السبب فعلته
النوع الثالث من أعمال الأبرار قوله تعالى
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله تعالى وإليه الإشارة بقول تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان ٧ ) والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ وههنا مسائل
المسألة الأولى لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب ( البسيط ) أنها نزلت في حق علي عليه السلام وصاحب ( الكشاف ) من المعتزلة ذكر هذه القصة فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله ( ﷺ ) في أناس معه فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين فلما أمسوا ووضعواالطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرأها السورة ) والأولون يقولون إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ثم ذكر وعيد الكافر ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ ( الإنسان ٥ ) وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بياناً لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين فلو جعلناه مختصاً بشخص واحد لفسد نظم السورة والثاني أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ مِنْ وَيُطْعِمُونَ ( الإنسان ٥ ٧ ٨ ) وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه ولكنه أيضاً داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبتة اللهم إلا أن يقال السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثانية الذين يقولون هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام قالوا المراد من قوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير وأما الذين يقولون الآية عامة في حق جميع الأبرار ( فإنهم ) قالوا إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام وذلك لأن قوام الأبدان بالطعام ولا حياة إلا به وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن


الصفحة التالية
Icon