والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر ويمكن أيضاً أن يجاب عن هذا السؤال من وجهين الوجه الأول أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلاً فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق
المسألة الثالثة قال سعيد بن هشام قلت لعائشة ( أخبريني عن خلق رسول الله قالت ألست قرأ القرآن قلت بلى قالت فإنه كان خلق النبي عليه الصلاة والسلام ) وسئلت مرة أخرى فقالت كان خلقه القرآن ثم قرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون ١ ) إلى عشرة آيات وهذا إشارة إلى أن نفسه المقدسة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب وإلى كل ما يتعلق بها وكانت شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادة الدنيوية بالطبع ومقتضى الفطرة اللهم ارزقنا شيئاً من هذه الحالة وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت ( ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ( ﷺ ) ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك ) فلهذا قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال أنس ( خدمت رسول الله ( ﷺ ) عشر سنين فما قال لي في شي فعلته لم فعلت ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت ) وأقول إن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم فقال وَعَلَّمَكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء ١١٣ ) ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة
واعلم أنه تعالى لما وصفه بأنه على خلق عظيم قال
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
أي فسترى يا محمد ويرون يعني المشركين وفيه قولان منهم من حمل ذلك على أحوال الدنيا يعني فستبصر ويبصرون الدنيا أنه كيف يكون عاقبة أمرك وعاقبة أمرهم فإنك تصير معظماً في القلوب ويصيرون دليلين ملعونين وتستولي عليهم بالقتل والنهب قال مقاتل هذا وعيد بالعذاب ببدر ومنهم من حمله على أحوال الآخرة وهو كقوله سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاْشِرُ ( القمر ٢٦ )
بم وأما قوله تعالى
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ
ففيه وجوه أحدها وهو قول الأخفش وأبي عبيدة وابن قتيبة أن الباء صلة زائدة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنين ٢٠ ) أي تنبت الدهن وأنشد أبو عبيدة


الصفحة التالية
Icon