فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة ثم قالت المعتزلة هذا غير جائز عقلاً لما فيه من التنفير وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافراً فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( النجم ٢ ) ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً كثيرة أحدها ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها وهو المراد من قوله مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى ٥٢ ) وقوله وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( يوسف ٣ ) وثانيها ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتاً يقول إنما هلاكنا بيد هذا الصبي وفيه حكاية طويلة وثالثها ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهداني الله ) ذكره الضحاك وذكر تعلقه بأستار الكعبة وقوله يا رب رد ولدي محمدا
اردده ربي واصطنع عندي يداً
فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول لا ندري ماذا نرى من ابنك فقال عبد المطلب ولم قال إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة كأن الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى وقال ابن عباس رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ورابعها أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي فهداه إلى القافلة وقيل إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى وخامسها يقال ضل الماء في اللبل إذا صار مغموراً فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه وسادسها العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة كأنه تعالى يقول كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت فأنت شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق ونظيره قوله عليه السلام ( الحكمة ضالة المؤمن ) وسابعها ووجدك ضالاً عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً كما قال وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ( النحل ٧٨ ) فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ وثامنها كنت ضالاً عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها ألبتة وتاسعها أنه قد يخاطب السيد ويكون المراد قومه فقوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك وبشرعك وعاشرها وجدك ضالاًّ عن الضالين منفرداً عنهم مجانباً لدينهم فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين الحادي عشر وجدك ضالاً عن الهجرة متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد وكان ما كان من حديث سراقه وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله فَهَدَى الثاني عشر ضالاًّ عن القبلة فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا فهداه الله بقوله فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ( البقرة ١٤٤ ) فكأنه سمي ذلك التحير بالضلال الثالث عشر أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف


الصفحة التالية
Icon