من العدم والحياة خير من الموت وهو الذي قال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة ٢٨ ) وثانيها قوله فَسَوَّاكَ أي جعلك سوياً سالم الأعضاء تسمع وتبصر ونظيره قوله أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ( الكهف ٣٧ ) قال ذو النون سواك أي سخر لك المكونات أجمع وما جعلك مسخراً لشيء منها ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة وسرك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي وفضك على كثير ممن خلق تفضيلاً وثالثها قوله فَعَدَلَكَ وفيه بحثان
البحث الأول قال مقاتل يريد عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين فلم يجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع وهو كقوله بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّى َ بَنَانَهُ ( القيامة ٤ ) وتقريره ما عرف في علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبي هذه الجثة على التسوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في أشكالها ولا في ثقبها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها واستقصاء القول فيه لا يليق بهذا العلم وقال عطاء عن ابن عباس جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية وقال أبو علي الفارسي عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعداً لقبول العقل والقدرة والفكر وصيرك بسبب ذلك مستولياً على جميع الحيوان والنبات وواصلاً بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم
البحث الثاني قرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف وفيه وجوه أحدها قال أبو علي الفارسي أن يكون المعنى عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت والثاني قال الفراء فَعَدَلَكَ أي فصرفك إلى أي صورة شاء ثم قال والتشديد أحسن الوجهين لأنك تقول عدلتك إلى كذا كما تقول صرفتك إلى كذا ولا يحسن عدلتك فيه ولا صرفتك فيه ففي القراءة الأولى جعل في من قوله مَا يُجَادِلُ صُورَة ٍ صلة للتركيب وهو حسن وفي القراءة الثانية جعله صلة لقوله فَعَدَلَكَ وهو ضعيف واعلم أن اعتراض القراء إنما يتوجه على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول الذي ذكره أبو علي الفارسي فغير متوجه والثالث نقل القفال عن بعضهم أنهما لغتان بمعنى واحد أما قوله مَا يُجَادِلُ صُورَة ٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ففيه مباحث الأول ما هل هي مزيدة أم لا فيه قولان الأول أنها ليست مزيدة بل هي في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك وبناء على هذا الوجه قال أبو صالح ومقاتل المعنى إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة كلب أو صورة حمار أو خنزير أو قرد والقول الثاني أنها صلة مؤكدة والمعنى في أي صورة تقتضيها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة فإنه سبحانه يركبك على مثلها وعلى هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها أن المراد من الصور المختلفة شبه الأب والأم أو أقارب الأب أو أقارب الأم ويكون المعنى أنه سبحانه يركبك على مثل صور هؤلاء ويدل على صحة هذا ما روى أنه عليه السلام قال في هذا الآية ( إذا استقرت النطفة في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ) والثاني وهو الذي ذكره الفراء والزجاج أن المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول والقصر والحسن والقبح والذكورة والأنوثة ودلالة هذه الحالة على الصانع القادر في غاية الظهور لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء وتأثير طبع الأبوين فيه على السوية فالفاعل المؤثر بالطبيعة في القابل المتشابه لا يفعل إلا فعلاً واحداً فلما اختلفت الآثار والصفات دل ذلك الاختلاف على أن المدبر هو القادر المختار قال القفال


الصفحة التالية
Icon