والملك سبب الاختصاص والدليل عليه أنه لما قال سليمان هَبْ لِى مَلَكًا فقال هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ولهذا السبب من حمل الكوثر على الحوض قال الأمة تكون أضيافاً له أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك فلهذا قال في القرآن ءاتَيْنَاكَ فإنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئاً منه الثاني أن الشركة في القرآن شركة في العلوم ولا عيب فيها أما الشركة في النهر فهي شركة في الأعيان وهي عيب الوجه الثاني في بيان أن الإعطاء أليق بهذا المقام من الإيتاء هو أن الإعطاء يستعمل في القليل والكثير قال الله تعالى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أما الإيتا فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم قال الله تعالى وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً والأتي السيل المنصب إذا ثبت هذا فقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يفيد تعظيم حال محمد ( ﷺ ) من وجوه أحدها يعني هذا الحوض كالشيء القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فهو يتضمن البشارة بأشياء هي أعظم من هذا المذكور وثانيها أن الكوثر إشارة إلى الماء كأنه تعالى يقول الماء في الدنيا دون الطعام فإذا كان نعيم الماء كوثراً فكيف سائر النعيم وثالثها أن نعيم الماء إعطاء ونعيم الجنة إيتاء ورابعها كأنه تعالى يقول هذا الذي أعطيتك وإن كان كوثراً لكنه في حقك إعطاء لا إيتاء لأنه دون حقك وفي العادة أن المهدي إذا كان عظيماً فالهدية وإن كانت عظيمة إلا أنه يقال إنها حقيرة أي هي حقيرة بالنسبة إلى عظمة المهدي له فكذا ههنا وخامسها أن نقول إنما قال فيما أعطاه من الكوثر أعطيناك لأنه دنيا والقرآن إيتاء لأنه دين وسادسها كأنه يقول جميع ما نلت مني عطية وإن كانت كوثراً إلا أن الأعظم من ذلك الكوثر أن تبقى مظفراً وخصمك أبتر فإنا أعطيناك بالتقدمة هذا الكوثر أما الذكر الباقي والظفر على العدو فلا يحسن إعطاؤه إلا بعد التقدمة بطاعة تحصل منك فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ أي فاعبد لي وسل الظفر بعد العبادة فإني أوجبت على كرمي أن بعد كل فريضة دعوة مستجابة كذا روى في الحديث المسند فحينئذ أستجيب فيصير خصمك أبتر وهو الإيتاء فهذا ما يخطر بالبال في تفسير قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك قالت آب بكوثر أي بالعدد الكثير ويقال للرجل الكثير العطاء كوثر قال الكميت
وأنت كثير يا ابن مروان طيب
وكان أبوك ابن الفضائل كوثراً ويقال للغبار إذا سطع وكثر كوثر هذا معنى الكوثر في اللغة واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول وهو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة روى أنس عن النبي ( ﷺ ) قال ( رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت ما هذا قيل الكوثر الذي أعطاك الله ) وفي رواية أنس ( أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان ) ولعله إنما سمي ذلك النهر كوثراً إما إنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيراً أو لأنه انفجر منه أنهار الجنة كما روى أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار أو لكثر الذين يشربون منها أو لكثرة ما فيها من المنافع على ما قال عليه السلام ( إنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير ) القول الثاني أنه حوض والأخبار فيه مشهورة ووجه التوفيق بين هذا القول والقول الأول أن يقال لعل النهر ينصب في الحوض أو لعل الأنهار إنما تسيل من ذلك


الصفحة التالية
Icon