مخلصاً لربه لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضاً آخر بل قالوا لا يجعل طلب الجنة مقصوداً ولا النجاة عن النار مطلوباً وإن كان لا بد من ذلك وفي التوراة ما آريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير مثل الواجب من الأضحية شاة فإذا ذبحت إثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك وإن زدت في الخشوع لأن الناس يرونه لم يجز فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى فكيف ولو خلطت بها محظوراً مثل أن تتقدم على إمامك بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله مُخْلِصِينَ قال بعضهم مقرين له بالعبادة وقال آخرون قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة وقال الزجاج أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره ويدل على هذا قوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً واحِداً
أما قوله تعالى حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواة َ ففيه أقوال
الأول قال مجاهد متبعين دين إبراهيم عليه السلام ولذلك قال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهذا التفسير فيه لطيف كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضاً بالكلية فلا جرم ذكر قوماً أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم وهو إبراهيم ومن معه فقال قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ فكأنه تعالى قال إن كنت تقلد أحداً في دينك فكن مقلداً إبراهيم حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران ومن ماحين بذله للضيفان ومن ولده حين بذله للقربان بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه ولم ير شخصاً فاستعاده فقال أما بغير أجر فلا فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام وقال حق لك حيث سماك خليلاً فخذ مالك فإن القائل كنت أنا بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال أما إليك فلا فالحق سبحانه كأنه يقول إن كنت عابداً فاعبد كعبادته فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين أما تترك الحرام وموافقة الشياطين فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم فاجتهد في متابعة ولده الصبي كيف إنقاد لحكم ربه مع صفره فمد عنقه لحكم الرؤبا وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل وهو أم الذبيح كيف تجرعت تلك الغصة ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإراث والرقيقة نصف الحرة بدليل إن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل ثم أنظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف لا يكلمها ولا يعطف عليها قالت آلله أمرك بهذا فأومأ برأسه نعم فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق
والقول الثاني المراد من قوله حُنَفَاء أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل كقولنا للأعمى بصير وللمهلكة مفازة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ


الصفحة التالية
Icon