إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى فقصر اللفظ العام على سبب نزوله والمحققون من المفسرين قالوا خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة يقال انتقم منه انتقاماً أي عاقبه وقال الليث يقال لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب فالأول صفة الذات والثاني صفة الفعل والله أعلم
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الاٌّ رْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين
الاحتمال الأول أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما أن يكون عالماً بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات فحينئذ يكون عالماً لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات لا يشغله سؤال عن سؤال ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء إشارة إلى كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات وحينئذ يكون قادراً على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائماً بالقسط قيوماً بجميع الممكنات والكائنات ثم فيه لطيفة أخرى وهي أن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع لأن معرفة صحة السمع مرقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي وذلك هو أن نقول إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة والتركيب الغريب وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة فبعضها عظام وبعضها غضاريف وبعضها


الصفحة التالية
Icon