شرايين وبعضها أوردة وبعضها عضلات ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم فكان قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء دالاً على كونه قادراً على كل الممكنات ودالاً على صحة ما تقدم من قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وقادر على كل الممكنات ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولاً من أنه هو الحي القيوم ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة ولا أحسن ترتيباً ولا أكثر تأثيراً في القلوب من هذه الكلمات
والاحتمال الثاني أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها وذلك لأن النصارى ادعوا إلاهية عيسى عليه السلام وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة والنوع الثاني شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية
أما النوع الأول من الشبه فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما يتعلق بالعلم والثاني يتعلق بالقدرة
أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وكان يقول لهذا أنت أكلت في دارك كذا ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم
وأما الأمر الثاني من شبههم فهو متعلق بالقدرة وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلاهية عيسى وفي التثليث بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة ٢٥٥ ) يعني الإله يجب أن يكون حياً قيوماً وعيسى ما كان حياً قيوماً لزم القطع إنه ما كان إلاهاً فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جواباً عن هاتين الشبهتين
أما الشبهة الأولى وهي المتعلقة بالعلم وهي قولهم إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلاهاً فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلاهاً لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه وتعليم الله تعالى له ذلك لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإلاه لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقاً والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات فكيف والنصارى يقولون إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالماً بالغيب كله لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله وأنه يتأذى بذلك ويتألم فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات والإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلاهاً فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلاهية وأما


الصفحة التالية
Icon