أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان أو يقال كل واحد منهما وإن كان راجحاً إلا أن أحدهما يكون أرجح وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول
أما الأول فباطل لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي وكان ذلك مظنون والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً
وأما الثاني وهو أن يقال أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً فهذا صحيح ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره فعنذ هذا يتعين التأويل فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلاً ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهباً أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب والله ولي الهداية والرشاد
المسألة الثالثة في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام قُلْ تَعَالَوْاْ ( الأنعام ١٥١ ) إلى آخر الآيات الثلاث والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه وأقول التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة


الصفحة التالية
Icon