قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص وذلك نفي للصانع ولزم منه أيضاً أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالماً وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالماً ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة
وأما المحقق المنصف فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً وثانيها الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه ويكون ذلك متشابهاً بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه بيّن أن لهم فيه غرضين فالأول هو قوله تعالى ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني هو قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ
فأما الأول فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه يقال فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهاً أولها قال الأصم إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه
وأما الغرض الثاني لهم وهو قوله تعالى وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه هذا معنى التأويل في اللغة ثم يسمى التفسير تأويلاً قال تعالى سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( الكهف ٧٨ ) وقال تعالى وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( النساء ٥٩ ) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون قال القاضي هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو المراد من قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ثم بيّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ واختلف الناس في هذا الموضع فمنهم من قال تم الكلام ههنا ثم الواو في قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو الابتداء وعلى هذا القول لا يعلم المتشابه


الصفحة التالية
Icon