إلا الله وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا
والقول الثاني أن الكلام إنما يتم عند قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه
الحجة الأولى أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف فإذا كانت المسألة قطعية يقينية كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز مثاله قال الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة ٢٨٦ ) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلاً وأيضاً قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه ٥ ) دلّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه والفطرة الأصلية تشهد بصحته وبالله التوفيق
الحجة الثانية وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزاً لما ذم الله تعالى ذلك
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة كما في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف ١٧٨ ) وأيضاً طلب مقادير الثواب والعقاب وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر ٧ )
قلنا إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه ودلّ العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركاً للظاهر وأنه لا يجوز
الحجة الثالثة أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به وقال في أول سورة البقرة فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه


الصفحة التالية
Icon