إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها قوله تعالى ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها قوله بعد هذه الآية قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران ١٥ ) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه
والقول الثاني قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبيد تزيين لها فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة والله تعالى قد ندب إليها فكان مزيناً لها وإنما قلنا إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول أن يتصدق بها والثاني أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة ٢٩ ) وقال قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف ٣٢ ) وقال إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا ( الكهف ٧ ) وقال خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف ٣١ ) وقال في سورة البقرة وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة ٢٢ ) وقال كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( البقرة ١٦٨ ) وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد زُيّنَ لِلنَّاسِ على تسمية الفاعل
والقول الثالث وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى أو من الشيطان
المسألة الثالثة قوله حُبُّ الشَّهَواتِ فيه أبحاث ثلاثة
البحث الأول أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور قدرة وللمرجو رجاء وللمعلوم علم وهذه استعارة مشهورة في اللغة يقال هذه شهوة فلان أي مشتهاه قال صاحب ( الكشاف ) وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان إحداهما أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها


الصفحة التالية
Icon