الوجه الثاني أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ثم نقول إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك وبيّنوه بتقرير الدلائل والبراهين أما الملائكة فقد بيّنوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق أولي العلم فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول ( ﷺ ) إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام
القول الثاني قول من يقول شهادة الله تعالى على توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ونظيره قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب ٥٦ ) ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ومن الملائكة غير الصلاة من الناس مع أنه قد جمعهم في اللفظ
فإن قيل المدعي للوحدانية هو الله فكيف يكون المدعي شاهداً
الجواب من وجوه الأول وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ولهذا قال قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام ١٩ )
الوجه الثاني في الجواب أنه هو الموجود أزلاً وأبداً وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صرفاً ونفياً محضاً والعدم يشبه الغائب والموجود يشبه الحاضر فكل ما سواه فقد كان غائباً وبشهادة الحق صار شاهداً فكان الحق شاهداً عل الكل فلهذا قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ
الوجه الثالث أن هذا وإن كان في صورة الشهادة إلا أنه في معنى الإقرار لأنه لما أخبر أنه لا إلاه سواه كان الكل عبيداً له والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد فكان هذا الكلام جارياً مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق
الوجه الرابع في الجواب قرأ ابن عباس شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ بكسر أَنَّهُ ثم قرأ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران ١٩ ) بفتح ءانٍ فعلى هذا يكون المعنى شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ اعتراضاً في الكلام واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء وبتقدير ءانٍ تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى


الصفحة التالية
Icon