اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل ١٢٣ ) ثم إنه تعالى أمر محمداً ( ﷺ ) في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم ( ﷺ ) حيث قال إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام ٧٩ ) فقول محمد ( ﷺ ) أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ كقول إبراهيم عليه السلام وَجَّهْتُ وَجْهِى َ أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى وقصدته بالعبادة وأخلصت له فتقدير الآية كأنه تعالى قال فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة بعيدة عن كل شبهة وتهمة فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات وداخلاً تحت قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل ١٢٥ )
والوجه الثالث في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ثم قال فَإنْ حَاجُّوكَ يعني فإن نازعوك في قولك إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران ١٩ ) فقل الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ولا أشرك به غيره كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية فصح أن الدين الكامل هو الإسلام وهذا الوجه يناسب الآية
الوجه الرابع في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم ٤٢ ) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً ويكون أمري في يديه وحكمي في قبضة قدرته فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له وأن انقاد له وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير والشر والنفع والضر والتدبير والتقدير
الوجه الخامس يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة ١٣١ ) وهذا مروي عن ابن عباس
أما قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ ففيه وجوه الأول قال الفرّاء أسلمت وجهي لله أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ولم يشاركه غيره قال ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الكهف ٢٨ ) أي عبادته ويقال هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول وجهت وجهي إليك ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه مرّ على وجهه الثاني أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلاهيته وحكمه الثالث أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته عادل عن كل ما سواه
وأما قوله وَمَنِ اتَّبَعَنِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى حذف عاصم وحمزة والكسائي الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعاً للمصحف وأثبته الآخرون على الأصل


الصفحة التالية
Icon