الكل كان القول بالتخصيص في غاية البعد وحجة ابن عباس أن قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون أسألك بالله وبالرحم وأنشدك الله والرحم وإذا كان كذلك كان قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختصا بالعرب فكان أول الآية وهو قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مختصا بهم لأن قوله في أول الآية اتَّقُواْ رَبَّكُمُ وقوله بعد ذلك وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ وردا متوجهين إلى مخاطب واحد ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها فكان قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عاما في الكل وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ خاصاً بالعرب
المسألة الثانية أنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن إحداهما هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الاول من القرآن والثانية سورة الحج وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد وهو قوله إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج ١ ) فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد وتحت هذا البحث أسرار كثيرة
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف فنقول قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة مشتمل على قيدين أحدهما أنه تعالى خلقنا والثاني كيفية ذلك التخليق وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس واحدة ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى
أما القيد الأول وهو أنه تعالى خلقنا فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه وبيان ذلك من وجوه الأول أنه لما كان خالقا لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق الثاني أن الايجاد غاية الانعام ونهاية الاحسان فانك كنت معدوما فأوجدك وميتا فأحياك وعاجزا فأقدرك وجاهلا فعلمك كما قال إبراهيم عليه السلام ( الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين ) فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم باظهار الخضوع والانقياد وترك التمرد والعناد وهذا هو المراد بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة ٢٨ ) الثالث وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقاً وإلها وربا لنا وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجباً ثواباً ألبتة لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئاً آخر هذا إذا سلمنا


الصفحة التالية
Icon