أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء فكيف وهذا محال لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة وخلق الداعية على الطاعة ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده والمولى إذا خص عبده بانعام لم يصر ذلك الانعام موجبا عليه إنعاماً آخر فهذا هو الاشارة إلى بيان أن كونه خالقاً لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه
وأما القيد الثاني وهو أن خصوص كونه خالقاً لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية فبيانه من وجوه الأول أن خلق جميع الأشخاص الانسانية من الانسان الواحد أدل على كمال القدرة من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الانسان الواحد لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار لا طبيعة مؤثرة ولا علة موجبة ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه فكان ارتباط قوله اتَّقُواْ رَبَّكُمُ بقوله خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ في غاية الحسن والانتظام
والوجه الثاني وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر غقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة ولذلك ان الانسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه ويحزن بذمهم والطعن فيهم وقال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وإذا كان الأمر كذلك فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سبباً لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض
الوجه الثالث أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق
الوجه الرابع أن هذا يدل على المعاد لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم ٣١ )
الوجه الخامس قال الأصم الفائدة فيه أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية وكان النبي ( ﷺ ) أمياً ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا فالحاصل أن قوله خَلَقَكُمْ دليل على معرفة التوحيد وقوله مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ دليل على معرفة النبوة
فان قيل كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس


الصفحة التالية
Icon