مخلوق من التراب ثم قال في حق الخلائق مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( طه ٥٥ ) وهذه الآيات كلها دالة على ان الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال
أجاب المتكلمون فقالوا خلق الشيء من الشيء محال في العقول لأن هذا المخلوق ان كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة واذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر وان قلنا ان هذا المخلوق مغاير للذي كان موجوداً قبل ذلك فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض فثبت أن كون الشيء مخلوقا من غيره محال في العقول وأما كلمة مِنْ في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار بل على وجه الوقوع فقط
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا بلفظ اسم الفاعل وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خالق
قوله تعالى وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي بث منهما يريد فرق ونشر قال ابن المظفر البث تفريقك الأشياء يقال بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض وبثثت البسط إذا نشرتها قال الله تعالى وَزَرَ أَبِى مَبْثُوثَة ٌ قال الفراء والزجاج وبعض العرب يقول أبث الله الخلق
المسألة الثانية لم يقل وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
فان قيل لم لم يقل وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء
قلنا السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر فلا جرم خصوا بوصف الكثرة وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول
المسألة الثالثة الذين يقولون إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام حملوا قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء على ظاهره والذين أنكروا ذلك قالوا المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين فكان الكل مضافا اليهما على سبيل المجاز


الصفحة التالية
Icon