كذلك يسعى البقاعي إلى تأويل تنسيق السور القرآنية تنسيقا يجعل من النظم البياني للقرآن الكريم في علائقه ببعضه كعلاقة أجزاء الدائرة المفرغة ببعضها لايدرى أين طرفاها.
وهو يستمر في تبيان تعالق كل سورة من السور التسع في آخر القرآن الكريم ترتيلا بما قابلها من التسع في أوله تلاوة.
ومما هوجلِيٌّ لايدفع، ولا يظهر فيه شائبة تكلّف تأويل ما تراه من العلاقة الوثيقة بين سورة " المسد " الرابعة من آخر تلاوته وسورة " النساء " الرابعة من أول تلاوته
يقول في ختام تاويله سورة "المسد":
" وحاصلُ هذه السورةِ أنَّ أبا لهبٍ قطع رحمه، وجار عن قصد السبيل، واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره، وظلم الناصح له الرؤوف به الذي لمْ يألُ جهدًا في نصحه على ما تراه من أنّه لم يألُ هو جهدًا في أذاه، واعتمد على ماله وأكسابه، فهلك وأهلك امرأته معه، ومن تبعه من أولاده.
ومن أعظم مقاصد سورة" النساء" المناظرة لها في ردّ المقطع على المطلع التواصل والتقارب والإحسان لاسيّما لذوي الأرحام والعدل في جميع القوال والأفعال، فكان شرح حال الناصح الذي لاينطق عن الهوى، وحال الضالّ الذي إنما ينطق عن الهوى قوله تعالى:
(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (النساء: ٢٦)
وختمها إشارةً إلى التحذيرِ منْ مثلِ حالِهِ، فكأنَّه قيلَ: يبينُ الله لكم أن تضلوا فتكونوا كأبي لهبٍ في البوار، وصَلْيِ النَّار كما تبين لكم فكونوا على حذرمن كلّ ما يشابه حاله، وإن ظهر لكم خلاف ذلك، فأنا أعلم منكم، والله بكل شيءٍ عليم والحمد لله رب العالمين)) (١)
هذا الذي أبداه "البقاعيّ" من تعانق سورتي " المسد " و" النساء" لا ترى فيه شائبة تكلف، وما هوإلا أن يلفت بصيرتك إليه حتى تسكن إلى ما لفتك إليه.