(وهكذا يموّه فرعون الطاغية ويحاور ويداور، كي لا يواجه الحق جهرة، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه. وبعيد عن الإحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. وبعيد أن يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو الساذج، وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور. إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت منه جهة أخرى. وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن)(١)، وكل هذه الفروض تدل على القدرة الكبيرة التي يتمتع بها فرعون في المكر والاحتيال، فهو يظهر غير ما يبطن ببراعة وذكاء.
وحين أحس فرعون بالخطر الدّاهم على سلطانه شرع يمكر بكل ما يستطيع ويحتال، و’’قال للملأ حوله : إنّ هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، فماذا تأمرون‘‘(٢). فهو يوجّه الخطاب للملأ المستقرين حوله-فهم لا يغادرون السلطان، ويلتصقون به حفاظا على مصالحهم- إنّ هذا لساحر عليم، فائق في فنّ السحر، وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسمّيها سحرا، فهو يصف ساحرها بأنّه ساحر عليم. ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به بقوله-للملأ والجماهير من بعدهم-يريد أن يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها وتوطنتموها بسحره، وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له، إذ من أصعب الأشياء على النّفوس مفارقة الوطن لاسيما إذا كان ذلك قسرا، وهو السر في نسبة الإخراج والأرض إليهم (٣)، فأظهر لهم غير ما كتمه في نفسه من خوفه على عرشه وسلطانه.

(١) في ظلال القرآن(٧/١٨٣-١٨٤).
(٢) الشعراء: ٣٥].
(٣) انظر: تفسير ابن كثير(٣/٣٣٤)وتفسير أبي السعود(٦/٢٤١)وتفسير النسفي(٣/١٨٤)وروح المعاني(١٩/٧٦).


الصفحة التالية
Icon