وتظهر شخصيته الماكرة المخادعة في طريقة تصرّفه ومخاطبته لأتباعه بعد أن علم بخروج بني إسرائيل خفية، يقول تعالى:’’فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حاذرون(١)‘‘(٢)، فإنّه لمّا علم بخروج بني إسرائيل(اشتد غضبه عليهم لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين، أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب، ونادى فيهم: إنّ هؤلاء يعني بني إسرائيل’’لشرذمة قليلون‘‘أي لطائفة قليلة،’’وإنّهم لنا لغائظون‘‘أي كل وقت يصل إلينا ما يغيظنا،’’وإنا لجميع حاذرون‘‘أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإنّي أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد خضراءهم)(٣).
فانظر كيف رتّب خطابه، حيث أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم، يريد أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ثمّ إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم، لأنّهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، فيجب التيقظ في شأنهم لأنّنا قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إخماده. وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه (٤)، وبهذه العقلية الماكرة أخفى فرعون ما أراد إخفاءه.

(١) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (وإنا لجميع حذرون) بغير ألف، وقرأ الباقون: (حاذرون)بالألف، أي مؤدون مقوون أي ذوو أداة و ذوو سلاح و قوة، فالحاذر المستعد والحذر المتيقظ أي قد أخذنا حذرنا وتأهبنا وقالوا: الحاذر الذي يحذر الآن والحذر المخلوق حذرا لا تلقاه إلا حذرا حذرا وكان الكسائي يقول أصلهما واحد من الحذر)حجة القراءات(١/٥١٧).
(٢) الشعراء: ٥٣-٥٦].
(٣) تفسير ابن كثير (٣/٣٣٦، ٣٣٧).
(٤) انظر: تفسير البيضاوي(٤/٢٣٩)وتفسير أبي السعود(٦/٢٤٤)وتفسير النسفي(٣/١٨٦، ١٨٧).


الصفحة التالية
Icon