ولنا أن نقرر أنّ دعوى الألوهية والربوبية تعبير ظاهري عن تلك النّزعة، بلغت أقصى درجاتها حين أوجب فرعون على النّاس أن يتوجهوا إليه بنوع من العبادة، بينما هو في داخله يعبد ذاته. من هنا كان الإمتناع عن قبول الحق مهما أوتي صاحبه من برهان؛ذلك أنّ قيام البرهان أو عدمه ليس هو المشكلة ما دامت تلك الشخصية ترفض أي وضع لا تستطيع فيه التعبير عن مكنوناتها النّفسية، ولزم من ذلك الإستعلاء والاستبداد؛ذلك أنّ العبيد ليس لهم وظيفة بين يدي الإله والرب المزعوم سوى السمع والطاعة والتنفيذ، ولا يملكون حق التصرف ولو في أنفسهم.
إنّ الطغيان وتجاوز الحد في المعصية ببلوغ أسفل الدركات قد تمثل بادعاء فرعون للألوهية والربوبية كتعبير ظاهري عن مشاعر التّفوق والفوقية، ولزم من ذلك الظلم بكل معانيه وأنواعه وتصاريفه حين وضع فرعون نفسه في غير موضعها، وصاحب تلك الدعوى الفساد والإفساد، إذ كيف يكون الصلاح في وضع قائم على مفسدة كبرى صار العبد فيها ربا وإلها!فكل ما يُبنى على تلك المقدمة الفاسدة سيصيبه الخلل والعوار.
ولمّا كانت دعواه تصادم الفطرة وتدعو للنّفور أسرف في الجريمة واستكثر منها لإسكات المعارضين، وفي المقابل كان المكر والاحتيال لتمرير تلك الأكذوبة؛ذلك أنّ فرعون يعيش عقدة داخلية متمثلة بشعوره أنّه صغير يخشى الإنكشاف، ممّا يضطره للاحتيال الدائم لإخفاء الحقيقة وللتعويض عن الصِّغَر الذي يشعر به.
وفرعون واهم مغرور اغتر بما لديه، وخدعه زخرف الدنيا والجاه والسلطان والقوة، وتخيّل-بسبب انبهاره بما لديه-ما يكّذبه الواقع ويردّه، فهو ليس إلها ولا ربا، فحصلت على عينيّه غشاوة حجبت عنه الرؤية الصحيحة، ولكنّ هذا لا يغيّر الحقيقة، كما أنّ السراب لا يتحوّل إلى ماء، وهكذا الغرور نوع من الوهم والتخيّل في المحصلة.


الصفحة التالية
Icon