وكان الكذب وسيلته في رده على السحرة حين آمنوا، حيث وقع إيمانهم عليه وقع الصاعقة، فلجأ إلى وسيلته الخسيسة محاولا رد المعجزة الباهرة، باتهامهم بالتّواطيء مع موسى عليه السلام، واعتبر إيمانهم مؤامرة حيكت في الخفاء، فقال:’’إنّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‘‘(١). فليس إيمانهم-بزعم فرعون-سوى مواطأة جرت بينهم وبين موسى ليستولوا على مصر، وكان هذا-بزعمه-في المدينة قبل أن يبرزوا إلى هذه المباراة(٢)، حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته والإيمان به.(وهذا الذي قاله من البهتان، يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان، بل لا يُروج مثله على الصبيان، فإن النّاس كلهم- من أهل دولته وغيرهم -يعلمون أنّ موسى لم يرَ هؤلاء يوما من الدهر)(٣).
ثمّ أفرط في فريته فقلب المنطق كلّه رأسا على عقب، فبدلا من أن يقول إنّه لتلميذكم قال:’’إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر‘‘(٤)، أي رئيسكم في التعليم، وإنّما غلبكم لأنّه أحذق به منكم، أو لأنّه علمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبكم، وإنّما أراد فرعون بقوله هذا التلبيس والكذب على النّاس كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق، حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلاّ فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته(٥).

(١) الأعراف: ١٢٣].
(٢) انظر: تفسير ابن كثير(٢/٢٣٩)وتفسير البيضاوي(٣/٤٨)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(١/١٨٥)والجصاص: أبو بكر، أحمد بن علي الرازي،(٣٠٥-٣٧٠هـ)، أحكام القرآن، ٥أجزاء، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ١٤٠٥هـ.(٢/١٧٠)، وسأشير إليه لاحقا هكذا(أحكام القرآن للجصاص).
(٣) البداية والنّهاية(١/٢٥٦).
(٤) طه: ٧١].
(٥) انظر: تفسير الطبري(١٦/١٨٨)وتفسير أبي السعود(٦/٢٤٣)وتفسير الجلالين(١/٤٨٣)وتفسير النسفي(٣/٦١).


الصفحة التالية
Icon