وما تركه-أي الجزم بعدم وجود إله- أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه السلام اختيارا لدسيسة شيطانية، وهو إظهار أنّه منصف في الجملة، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله، وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه، فكأنّه قال: ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى والأمر محتمل)(١)…
ثمّ بدا له الجزم و(كان قوله لموسى عليه السلام’’لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين‘‘(٢)، بعد هذا القول المحكي ههنا-وهو قوله:’’ما علمت لكم من إله غيري‘‘- بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على البت أن لا إله لهم غيره، ثمّ هدّد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر بخلافه، وهذا وجه في الآية لا يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء)(٣).
(ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية-زعما منه-أنّ فيه الاعتراف بأصل الوجود، وذكروا أنّ ادعاءه الألوهية وقوله: أنا ربكم الأعلى إنّما كان إرهابا لقومه الذين استخفهم، ولم يكن ذلك عن اعتقاد. وكيف يعتقد أنّه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنّه وجد بعد أن لم يكن، ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه، ولم يكن له إلا ملك مصر، ولذا قال شعيب لموسى-عليهما السلام-لما جاءه في مدين: لاتخف نجوت من القوم الظالمين.

(١) روح المعاني(٢٠/٨٠).
(٢) الشعراء: ٢٩].
(٣) روح المعاني(٢٠/٨٠).


الصفحة التالية
Icon