لهذا دُرّب موسى عليه السلام على المشاق منذ الصغر، في(خط طويل من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتجريب، قبل النّداء وقبل التكليف… تجربة الرعاية والحب والتدليل. وتجرية الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة النّدم والتحرج والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة والفزع. وتجربة الغربة والحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة؛ذلك أنّ الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات.. ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر-عدا رسالة محمد-صلى الله عليه وسلم-فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشا، وأثبتهم ملكا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبيدا للخلق واستعلاء في الأرض.. وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه، فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا، والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن.. وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة، انحرفوا عنها، وفسدت صورتها في قلوبهم. فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجيدة ببراءة وسلامة، ولا هي باقية على عقيدتها القديمة، ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة.. وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشاءها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا، له حياة خاصة، تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل شاق عسير. ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة)(١).

(١) في ظلال القرآن(٦/٣٤٢-٣٤٣)مع بعض التصرف.


الصفحة التالية
Icon