ولفرط ثقتهم بأنفسهم وإظهارا لعدم اكتراثهم خيّروا موسى عليه السلام فقالوا:’’يا موسى إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون أول من ألقى‘‘(١)، فقال لهم موسى عليه السلام: (ألقوا أنتم أولا؛ليرى الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلب له والإنتظار منهم لمجيئته، فيكون أوقع في النفوس وكذا كان)(٢)، ولهذا قال تعالى:’’فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم‘‘(٣)، وفي هذا بيان للقدرة التي تمتع بها السحرة، بل وصل الأمر إلى أن أوجس في نفسه خيفة موسى(من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية)(٤).
إنّ فرعون والملأ والجماهير أصبحوا على يقين بالنّصر والظفر، فهم يترقبون لحظة الاستسلام من موسى، فماذا باستطاعته أن يفعل وقد امتلئت الأرض بالسحر العظيم؟ثمّ ما هي إلاّ لحظات حتى بدا لهم من موسى ما لم يكونوا يحتسبون،’’فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون‘‘(٥). ثمّ تتلوها مفاجأة أخرى تهزُّ عرش فرعون حين أعلن السحرة إيمانهم، يقول تعالى:’’فأُلقي السحرة ساجدين، قالوا آمنّا برب العالمين، رب موسى وهارون‘‘(٦)؛ذلك لأنّهم أعلم النّاس بصنعة السحر، فأيقنوا أنّ ما جاء به موسى هو الحق ممّا جعلهم ملقين على وجوههم تنبيهاً على أنَّ الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك، فكأنّهم أُخذوا فطرحوا على وجوههم، وكأنّ مُلقيا ألقاهم لعلمهم بأنّ مثل ذلك خارج عن حدود السحر، وأنّه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه الصلاة والسلام لتصديقه، وذلك حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه(٧).

(١) طه: ٦٥].
(٢) تفسير ابن كثير (٢/٢٣٨)مع بعض التصرف.
(٣) الأعراف: ١١٦].
(٤) تفسير البيضاوي(٤/٥٩)وانظر: تفسير ابي السعود(٦/٢٧).
(٥) الشعراء: ٤٥].
(٦) الشعراء: ٤٨].
(٧) انظر: تفسير ابي السعود(٦/٢٤٣)وتفسير البيضاوي(٣/٤٨).


الصفحة التالية
Icon