إنّ تطاول الزمن على فرعون وهو يملك الثروة والمال والجاه والسلطان والقوة البدنية والعسكرية… أدخل في نفسه العلوّ، يقول تعالى:’’كلاّ إنّ الإنسان ليطغى، أن رآه اسغنى‘‘(١)، وهذا يعني أنّ الغالبية من البشر لا يشكرون حين يستغنون، وهو ذات المعنى الذي نفهمه من قوله تعالى:’’وقليل من عبادي الشكور‘‘(٢)؛فحقيقة الشكر(الإعتراف بالنعمة للمنعم، واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية، وقليل من يفعل ذلك لأنّ الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية بحسب سابق التقدير)(٣).
لقد غابت عن فرعون-غفلة منه-الحقيقة الباقية’’وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور‘‘(٤)، فالحياة في الأرض قصيرة محدودة بأجل، متاع الغرور، تخدع من غفل قلبه عن المتاع الذي يدوم ولا ينقضي. وهكذا خُدع فرعون بما ظنّ أنّه كثير وهو-مع الدنيا-بأسرها لا يعدل عند الله جناح بعوضة، يقول تعالى:’’وفرحوا بالحياة الدّنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ متاع‘‘(٥)، وتلك علة يُعاني منها كثير من البشر.
لم يخرج فرعون عن تلك القاعدة فبدّل نعمة الله كفرا، حين ثبت ملكه وكثر جنده، وغمرته الخيرات والأرزاق، فأنهار مصر تجري من تحته ولا يُشق له عصا؛فاستغرق في المتاع وخلا قلبه من ذكر المنعم جلّ في علاه، واستمتع بالجاه والسلطان والملك، وقد طمست بصيرته زخارف الدّنيا وبهارجها، فلا عجب-إذن- أن يرشح من شخصية فرعون المستعلية كلّ هذا الظلم والعدوان، كإفراز طبيعي لما استقر في نفسه من العلوّ، فالذي خبث لا يخرج إلا نكدا، فكان من هذا النّكد أن ترفّع عن عبادة ربه؛وكيف يعبد الله من أعجبته نفسه، بل وصل به الحال إلى أن ادعى الألوهية. وما هذا إلا نتيجة لتلك النظرة إلى الذات والإعجاب بها، ولا فرق بين اليوم والبارحة، فكلّ إناء بما فيه ينضح.
اليهود مثال حيٌّ للعلوِّ والإفساد

(١) العلق: ٦، ٧].
(٢) سبأ: ١٣].
(٣) تفسير القرطبي(١٤/٢٧٦).
(٤) آل عمران: ١٨٥].
(٥) الرعد: ٢٦].


الصفحة التالية
Icon